قول للزمان ارجع يا زمان!

TT

الوسطية والتسامح والتعايش كلمات لم تكن دارجة لأن الناس ببساطة كانوا «يعيشونها» عمليا دون الحاجة للتعاطي التنظيري معها. نظرة بسيطة لمعان جميلة اختفت من زمان جميل. كنت أستمع بطرب وانسجام لرائعة فنان العراق الكبير ناظم الغزالي «سمراء من قوم عيسى»، وهي تحكي قصة غزل بريئة بين رجل مسلم وامرأة مسيحية، وهناك فيلما «حسن ومرقص وكوهين» و«فاطمة وماريكا وراشيل» اللذان يحكيان بأسلوب مرح وخفيف إمكانية التعايش السوي والبريء بين أبناء وبنات الديانات السماوية الثلاث في مصر، واللبنانيون يذكرون مسرحيات العملاقة فيروز بشخصياتها من أبناء وبنات الضيع والجبل من شتى الأديان والطوائف، وأغنية صباح التي تستفسر فيها «وين إلياس ووين حسين»، حتى في السودان كان يهود الفلاشا يتعايشون ويتاجرون ويتصادقون مع المسيحيين السوريين واللبنانيين والأرمن، والجنوبيون مع المسلمين بشكل مثالي يستشهد به، حتى الجاليات اليهودية في البحرين والمغرب تعايشت مع أبناء الطوائف والديانات الأخرى بسوية واستقرار.

كل هذه المشاهد والمحطات والشواهد تؤكد أن التعايش والتسامح والوسطية هي مسألة فطرية وغريزة إنسانية وأن التنطع والتشدد والتطرف هي عناصر دخيلة وغريبة تسمم النفس والمجتمع وتولد الضغينة والعنف. ونظرة للعديد من المجتمعات العربية اليوم كفيلة بتأكيد ذلك بشكل غير قابل للتعايش. الأقليات هربت وهاجرت أو خافت وتقوقعت. آثرت التراجع والانسحاب والامتناع عن الظهور حتى لا تهاجم وتكفر ويتم التشكيك في ولائها وانتمائها ووطنيتها وأمانتها وهذه أسلحة معدة سلفا وسهلة الاستخدام جربت من قبل بنجاح تام وليس هناك ما يمنع من إعادة الكرة من جديد. ولكن الخاسر الأكبر هو المجتمعات نفسها التي تفقد المكونات «الغنية» التي تصنع التنوع المنشود وتوفر الثراء المرغوب في الآفاق والأساليب التي لا تجعل كافة عناصر المجتمع صورا طبق الأصل من بعضها البعض وكأنها أعدت جميعا على آلة تصوير للمستندات فأفرزت نسخا فورية! عندما كان يسأل اللبناني إبان الحرب الأهلية الكبيرة التي عصفت بالبلاد لماذا تقتل؟ كان جواب أحدهم «بقتله لأنه ما نو متلي!» وفي هذه الإجابة سر مهم؛ فالإنسان يخشى «المختلف» ويشعر بالغربة والتهديد منه وبقدر ازدياد الفجوة والمسافة بينه وبين الآخر تزيد مساحات الخوف والقلق والاضطراب وهنا التحدي الأكبر: الشعور بالأمان والطمأنينة يحتاج إلى ثقة تزرع، حصاد تلك الثقة هي مجتمعات سوية ومنتجة. كندا وسنغافورة والبرازيل هي نماذج صارخة لهذه القاعدة. لم يدعوا للأهواء والنفوس والآراء الفردية مكانا لتفتيت الناس وتمزيقهم، ولكنهم حموا أنفسهم ومجتمعاتهم بالنظام والقانون. كان مفهوم الدين مختلفا وكان منطق التعامل والمعاملة هو الأساس والفيصل في تقييم الناس وقياس مكانتهم. تلك الأيام الخوالي والمعاني الجميلة يفتقدها كل من عايشها أو سمع عنها، ويبقى السؤال المحير القائم: من الذي خطف المعاني الجميلة وولد نفوسا متصارعة وقلقة ومضطربة؟ ابحثوا عن الإجابة الصادقة عن السؤال الصعب هذا. وقتها فقط هو أول طريق العودة للزمن الجميل.

[email protected]