لبنان: المساواة قبل الإلغاء

TT

قلما يختلف لبنانيان مع رئيس البرلمان اللبناني، نبيه بري، على أن علة عللهم السياسية تكمن في نظام المحاصصة الطائفية الشاذ الذي «وحّد» اللبنانيين في واجباتهم تجاه الدولة و«فرّقهم» في حقوقهم، بحيث حوّل بعضهم، بحكم الولادة فحسب، إلى مواطنين يتمتعون بكامل حقوق المواطنة والبعض الآخر إلى رعايا تحدّ من حقوقهم ـ واستطرادا طموحاتهم الإدارية والسياسية ـ مصادفة ولادتهم في كنف هذه الطائفة أو تلك من الطوائف المصنفة في خانة «الأقليات».

وقلما يختلف لبنانيان على توصيف الرئيس بري، لعدوي لبنان بالعدو، الداخلي (الطائفية السياسية) والخارجي (إسرائيل)، وحتى المساواة في خطرهما على لبنان.

من هذا المنطلق المبدئي تعتبر مطالبة الرئيس بري بإنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية ـ التي نص عليها اتفاق الطائف ـ مطلبا وطنيا يشكر على جرأته في طرحه اليوم وسط مناخ لبنان المحقون سياسيا وطائفيا ومذهبيا إلى حد فشلت فيه مصالحات «تبويس اللحى» بين هذا القطب وذاك من أن تترجم واقعا معاشا على الأرض.

ولكن إذا كانت دعوة الرئيس بري تجسد مطلبا وطنيا ملحا فإن توقيتها لا يخلو من مجازفة في فرص تحقيقها.

بالمطلق، كان التوقيت الأنسب لإلغاء الطائفية السياسية في لبنان الأشهر القليلة التي تلت توقيع اتفاق الطائف، وتحديدا إبان عهد الوصاية السورية ـ ليس فقط لإضفاء الجدية المطلوبة على مسيرة تطبيق كامل بنود اتفاق الطائف، بل أيضا للاستفادة من وجود «مرجعية» قادرة (آنذاك) على إقناع النظام اللبناني بتبنيها بأقل ضرر ممكن.

أما وقد فاتت لبنان فرصة إلغاء نظام الطائفية السياسية في عهد الوصاية السورية، فقد باتت «وسيلة» بلوغ هذا الهدف الوطني بأهمية «الغاية» نفسها، إن لم تكن أكثر أهمية في ظل الظروف الراهنة في لبنان، فرغم كل ما يروج عن توجه سياسي نحو التهدئة يصعب على أي مراقب لأوضاع لبنان الراهنة ألا يلاحظ نمو ظاهرة قد تكون مستجدة عليه هي ذلك الافتراق الملفت بين «لبنان القاعدة» و«لبنان السلطة» والذي يكاد يصل إلى مستوى الطلاق بين الشارع وبعض القيادات السياسية.

لا مبالغة في القول بأن النار لا تزال تحت الرماد في لبنان وتأجيجها بأي طرح قابل للتفاعل طائفيا في الشارع من شأنه أن يحبط مسعى إلغاء الطائفية السياسية عوض أن يحققه. وغير خاف أن بوادر هذا التأجيج قائمة فعلا بدليل الهجوم غير المسبوق الذي اعتمده بري في حديثه مع «الشرق الأوسط» ردا على منتقدي دعوته.

لذلك، ولأن تحقيق مطلب الرئيس بري يتطلب تهيئة المناخ السياسي والشعبي المواتي له، ولأن هذا المناخ يسممه الخلاف على ما يسمى بـ«استراتيجية الدفاع اللبنانية» قد يكون من الأجدى اعتماد مقاربة منهجية تقرن توحيد سلاح الدولة مع الإلغاء التدريجي للطائفية السياسية كون الهدفين يصبان في خانة قيام دولة اللبنانيين لا دولة الطوائف.

من هذا المنطلق قد تكون البداية الأسلم لإلغاء الطائفية السياسية في بلد تتخوف مذاهبه من بعضها البعض تحقيق «المساواة» المذهبية بين كل اللبنانيين أولا. وهذه يؤمنها التمثيل المتساوي، عدديا، لمذاهبهم في إطار مجلس الشيوخ المقترح إنشاؤه في اتفاق الطائف أيضا. فمع أن الرئيس بري لم يغفل عن لحظه في قائمة جدول أعمال البرلمان الجديد فقد أدرجه في آخر برنامجه الإصلاحي المقترح رغم ما يعنيه إقراره من توازن أفضل داخل آلية القرار السياسي اللبناني من شأنه أن يساعد، ببعده التمثيلي الشامل، في إيجاد حل مقبول لمعضلة ما يسمى بالاستراتيجية الدفاعية في لبنان.

قديما قيل «إن شئت أن تطاع فاطلب المستطاع».. وقد يكون المستطاع في أجواء لبنان الراهنة إقناع اللبنانيين بالتساوي طائفيا في إطار مجلس شيوخ يمكن منحه، كما في المملكة المتحدة، صلاحيات أعلى محكمة دستورية في البلاد، وبالتالي تحويله إلى ضمانة دستورية لجميع اللبنانيين تساهم في إقناعهم بإلغاء علة نظامهم، وقاعدته، في الوقت نفسه.