على هامش رشق السفير الإسرائيلي .. بالبيض التركي

TT

سفير إسرائيل في تركيا غابي ليفي، الذي هو من أصل تركي ويعرفه القارئ المتابع عن قرب من خلال حادثة زيارة مقر رئيس جامعة اسطنبول قبل أشهر حين أصر على اصطحاب حرسه الخاص إلى اللقاء، كرر فعلته هذه أثناء جولة في المدن التركية الرئيسية الواقعة على البحر الأسود ليلتقي برموزها وكبار المسؤولين الإداريين والسياسيين والأكاديميين فيها، غير عابئ بالتظاهرات واليافطات والاعتراضات وحتى أكياس البيض التي كانت تطارده خلال تنقلاته هناك من مكان إلى آخر.

الناطق الرسمي باسم السفارة الإسرائيلية يقول إن ليفي يقوم برحلتين على الأقل في الشهر الواحد إلى الكثير من المناطق التركية، والغاية هي التعرف إلى الداخل التركي عن قرب تمهيدا لوضع خطط إقامة علاقات تجارية وثقافية وعلمية مع فعاليات هذه المدن.

السفير الإسرائيلي قال إن هدف الجولة الأول هو إجراء دراسة ميدانية للمنطقة بناء على رغبات شركات سياحية إسرائيلية ترغب برفع عدد سياحها في مثل هذه المناطق الجبلية المميزة بإقليمها وجمال طبيعتها، لكن رئيس بلدية مدينة ريزا الذي التقاه مصحوبا بحرسه الشخصي في غرفته قال غاضبا: «أين تحدث مثل هذه الأمور.. الشرطة التركية أمام باب المدخل وهو يصر على تواجد حرسه معه أثناء زيارة رسمية يقوم بها ؟».. لكن رئيس البلدية الذي ينتمي إلى حزب العدالة لم يشأ تفويت مثل هذه الفرصة فقال مخاطبا السفير الإسرائيلي غامزا من قناة الحرب على غزة: «نحن أيضا سنقوم بحماية أنفسنا إذا ما تعرضنا للهجوم ولكن ليس من خلال قتل الأطفال».. مما أغضب ليفي ودفعه إلى اختصار مدة الزيارة والمغادرة مبديا أسفه لما جرى خلال اللقاء.

ليفي هو مثل الجرادة ـ كما يقول المثل التركي ـ التي تصر على القفز لا تعوقها الحواجز والاعتراضات إلى أن تتعرف على المياه. وها هو رغم كل ما وصلت إليه العلاقات بين أنقرة وتل أبيب من تدهور وجمود يتجول في قلب مناطق البحر الأسود رغم برودة العلاقات وبرودة الطقس هناك في مثل هذه الأيام. ما الذي جاء ليفي يفعله في مدن الشمال التركية في هذه الآونة وهو يعرف تماما أن إزالة التوتر التركي الإسرائيلي لن تمر عبر هذه المدن بعدما تعثر توفير الحل عبر أنقرة واسطنبول؟

رئيس بلدية ريزا يقول متابعا أمام وسائل الإعلام إن مسألة غزة ليست وحدها سبب سخونة اللقاء، فهم يأتون إلى هنا كسياح، لكنهم ودون أن يزوروا مراكز المدن يتوجهون فورا إلى الجبال والغابات النائية، وهذا ما يتركنا في حالة من الحيرة والارتباك حول أسباب تصرفاتهم هذه. ولنترك الكلام هنا إلى أحد المزارعين في المنطقة يعلق بدوره «أنا كنت شاهدا على جمعهم لمجموعات من الأعشاب والنباتات التي يقتلعونها من جذورها مع أتربتها ويضعونها في أكياس مجهزة لذلك ويحاولون حملها إلى المختبرات الزراعية في إسرائيل. عارضتهم مرة لأن ما يفعلونه لا يتناسب مع حسن الضيافة ومع أسباب وجودهم هنا، فغضبوا وغادروا المكان».

قبل أيام اعترضت مجموعة من الشبان الأتراك طريق السفير الإسرائيلي ليفي ورشقته بالبيض وهو يعد لزيارة رئيس جامعة طرابزون أهم مدن ساحل البحر الأسود التركية، لكنه أصر على الوصول إلى غايته، وانتظر بعض الوقت ليعود مجددا إلى حرم الجامعة ويقابل رئيسها بعدما فرقت الشرطة المتظاهرين.

لا نريد من أحد أن يكون ليفي آخر، لكننا نستغرب أن يركز الإعلام العربي وهو يتعامل مع الحدث على مسألة رشق ليفي بالبيض دون أن يتوقف ولو للحظة واحدة أمام سؤال: ما الذي جاء يفعله هناك رغم حالة الاحتقان والتوتر وتدهور العلاقات بين البلدين؟

كم هو عدد السفراء والقناصل أو الدبلوماسيين العرب الذين قصدوا مناطق البحر الأسود وزاروا مدنها للتعرف إليها أو التعريف ببلدانهم هناك؟ ما هو عدد الاتفاقيات والعقود التجارية والخدماتية والعلمية التي وقعها هؤلاء في المدن التركية غير أنقرة واسطنبول وأزمير؟ فتركيا لم ولن تكون عبارة عن هذه المدن وحدها، ومن يرد أن يستفسر أكثر فليسأل مثلا السفير الإسرائيلي ليفي كم هو مجموع الزيارات التي قام بها رغم الفترة القصيرة التي أمضاها كسفير لإسرائيل في تركيا، وكم هو عدد الاتفاقيات والعقود والبروتوكولات التي وقعها، وما هي نوعيتها، وما الذي ستوفره لإسرائيل في أكثر من مجال؟

قبل أيام التقى وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميلباند خلال زيارة قصيرة إلى اسطنبول بمجموعة من الإعلاميين الأتراك، استمع إليهم مطولا حول رأيهم في تحولات السياسة الخارجية التركية ومسار هذا التحول وانعكاساته على بلاده وعلى العلاقات التركية الأوروبية، وهذه مسألة روتينية ربما، لكن ما هو غير روتيني فيها هو أن يكون بين أسباب هذه الزيارة وغاياتها عقد مثل هذا اللقاء ومن قبل رأس الدبلوماسية الإنجليزية مباشرة دون وسطاء ومترجمين ورسميات، وهي من النوادر التي نسمع بها في المحافل الدبلوماسية.

الرهان على الإسراع في التعرف إلى حقيقة الداخل التركي وطاقاته وإمكاناته البشرية والجغرافية والاقتصادية والفكرية وسبل الاستفادة من هذه القدرات وتجييرها على طريق التقارب التركي العربي هو أكبر وأهم من رصد وترقب مكان وزمان تفجر العلاقات التركية الإسرائيلية التي ستعود عاجلا أو آجلا إلى مجراها الطبيعي مخيبة آمال الكثيرين.

* كاتب وأكاديمي تركي