الله يبارك ويزيد

TT

لم أحج في حياتي ـ الله لا يعاقبني ـ غير مرّتين، ولن أزيد. المرّة الأولى عندما كنت في بداية مراهقتي الصاخبة، وإنني على يقين أن ربي سبحانه وتعالى لن يقبلها بأي حال من الأحوال، لأنها كانت من بدايتها إلى نهايتها كلها رفث ومزاح ولعب (كوتشينه) ـ وهذا اعتراف صريح لا بد منه ـ وأملي أن يكون اعترافي هذا الذي أكتبه الآن علناً وعلى رؤوس الأشهاد تطهيراً لي وتكفيرا عن ذنوبي التي لو عددتها لغطت عين الشمس في رابعة النهار.

أما الحجة الثانية فأظن ـ والله أعلم ـ أنها سوف تكون مقبولة، لأنني أبليت فيها بلاء حسناً من ناحية التزامي بالنسك، وبالتهليل والتكبير والتلبية والصدقات التي صرفت عليها من جيبي ومن حر مالي مائة ريال ـ ريال ينطح ريال ـ وقد انطلقت من الطائف مع صديق إيراني اسمه مانو، وأحرمنا في وادي محرم ومنه إلى منى، واتفقت مع ذلك الصديق منذ البداية أن يكون حجنا على الأرجل.

وهذا ما كان، وعندما أوصلتنا سيارة الأجرة إلى منى، نمنا في ليلة التروية في العراء، وبعد أن صلينا صلاة الفجر انطلقنا (كعّابي) إلى عرفات ووصلناه عند الظهيرة، وتسلقنا جبل الرحمة مع المتسلقين ودعونا الله بقدر ما نستطيع، وعن نفسي أقول: إنني في ذلك اليوم بللت إحرامي الذي أرتديه من كثرة الدموع، لأنني أكثر الناس معرفة بنفسي (وعمايلها المهببة)، وأحسست في حينها أنني قد غسلت من قمة رأسي إلى أطراف قدميّ.

نسيت أن أقول لكم إنني اتفقت مع صديقي الإيراني ذاك أن يقتصر غذاؤنا على الماء والعصير والقليل من (البسكويت) فقط، وذلك لكي لا نضطر إلى الذهاب كثيرا إلى بيت الخلاء.

وما أن قاربت الشمس على المغيب حتى أخذنا نغذ السير إلى مزدلفة التي بلغناها عند العشاء، ونمنا نومة هنية على أصوات الحجيج غير المزعجة من مختلف اللغات واللهجات، والتقطنا حصوات الجمار التي اخترتها أنا شخصيا من الحجم الكبير نكاية بالشيطان الرجيم عليه لعنة الله.

وبعد ثلاث ساعات تقريباً من النوم ذهبنا إلى منى ورجمنا جمارنا وتحللنا، وكان لزاما علينا ذبح الأضحية، وهذه كانت بالنسبة لي معضلة، إذ أنني لا أستطيع، بل ويمكن أن يغمى علي من رؤية الدم، فاقترحت على صديقي أن نشترك مع أربعة من الإخوة الأفارقة في ذبح ثور، وفعلاً دفعنا لهم نصيبنا من ثمن الأضحية، وذهبوا هم لشرائه وذبحه، وما هي إلا أقل من ساعة حتى جاءوا وهم يحملون (رأس الثور ومقادمه) وقدموها لنا على أساس أنها نصيبنا منه لكي نطبخها ونأكلها، فشكرتهم وتبرعت بها لهم، فأخذوها فرحين وهم يدعون لي.

وفي اليوم الثاني ارتفعت حرارتي وأصبت بما يشبه (إنفلونزا الخنازير)، ولم أستطع الذهاب إلى المرجم فوكلت صديقي.

المهم عند النهاية كان لزاما علينا أن نطوف طواف الإفاضة، وتحاملت على نفسي طلبا للمثوبة والأجر، وكدت أهلك من شدة الزحام لولا أن تداركني الله برحمته وانتشلني وسقطت طريحا على عتبات المسجد الحرام لساعة كاملة أو أكثر، وكل ذلك يهون في سبيل أن أؤدي فريضتي على أكمل وجه، والحمد لله أنني أديتها بما يرفع الرأس.

وبالمناسبة، كنت حاضرا قبل أيام أحد المجالس وإذا بأحدهم يفتخر قائلا: إنني حججت إلى الآن أكثر من ست عشرة مرّة. فلم أملك إلاّ أن أقول له: الله لا يعطيك عافية، فغضب مني وكاد أن يمد يده عليّ لولا أن بعض الحضور تدخلوا بيننا.

وقصدي من ذلك أن أي إنسان تكفيه حجة واحدة لمن استطاع، وليترك المجال لغيره، فعدد المسلمين في العالم أكثر من مليار، والله يبارك ويزيد، وكل عام وأنتم بخير.

[email protected]