سيدة على تلة

TT

عندما لا يبقى للمرء من الأيام سوى ملاحة الذكريات، يتأمل كم كانت بسيطة وممكنة. والشباب طاحونة العسر وبهار القلة. ويعود أصحاب الذكريات إلى مواقعها وأماكنها، فلا يجدون سوى الحجارة وتلك الصور التي ما تبقى منها سوى نثارها. وهو نثار لا يجمع.

كلما جئت إلى تلة «مونمارتر» تطالعني لوحات الرسامين. لكن كم تغيرت أعدادهم وأفواجهم. وكم تغير نوادل المقاهي الرخيصة. والمطاعم التي لا يزال مهرجوها يرددون الأغاني الساخرة نفسها عن أهل بريتانيا: اللعنة على بريتانيا، اللعنة على البريتانيين.

وهذا التمثال النصفي الباسم لم يكن هنا من قبل. هنا كانت صاحبته، التي اختارت السكن بين بسطاء «مونمارتر». لماذا ليس في الدائرة السابعة، أو السادسة عشرة، قرب صديقها فرنسوا ميتيران؟ ربما لأن حياة البسطاء في «شبرا» كانت ترفض أن تخرج منها.

لم تستطع يولاندا غيغليوتي أن تصدق كل ما وصلت إليه. تولد هذه الإيطالية في أبسط أحياء القاهرة، وفي الحادية والعشرين تنتخب «ملكة جمال مصر» عام 1954. وثمة من ينصحها بأن لا حظ لها في السينما، حيث تمثل أدوارا صغيرة في أفلام ثانوية. لك صوت جميل، اذهبي وغني. ذهبت وملأت فرنسا غناء، بلكنة مصرية واضحة. غنت في سبع لغات. وبيع من أغانيها نحو 200 مليون اسطوانة. وغمرتها باريس السياسية والاجتماعية والفنية. وعلت من حولها كنوز الذهب. ولما عادت إلى مصر لكي تمثل مع يوسف شاهين في «اليوم السادس»، عبرت شبرا في سيارة مكشوفة، ولم يبق أحد لم يخرج لإلقاء التحية على ابنة الحارة العائدة على أجنحة الشهرة.

مقابل كل هذا الحظ كان يلازمها سوء طالع غريب. جميع الذين أحبوها وأحبتهم انتهوا بالانتحار. وثمة من أحبت ولم يبادلها الحب. وبلا ولد أو زواج، قررت داليدا الانتحار في 3 أيار (مايو) 1987 تاركة لمعجبيها حول العالم رسالة من سطر واحد: «سامحوني، لم أعد أطيق الحياة».

بقي من صورة داليدا هذه الساحة الصغيرة التي تحمل اسم أشهر سكان مونمارتر وهذا التمثال النصفي. ولم تكن تدري كم من قصص الحب عاشت على أغانيها. وكم من العاشقين الأذكياء واجهوا الغزل الكاذب بأغنيتها الإيطالية: «كلام كلام كلام». أو على رأي بنت البلد، كلام فاضي يا سي حسن. ماذا لو عاشت داليدا؟ هل كانت ستعود إلى مصر لكي تعيش هناك مع ذكريات الصبا الأول، كما فعل عمر الشريف؟ هل كانت ستبقى هنا، على هذه التلة التي تطل على كل باريس ولونها الرمادي البارد ومبانيها التاريخية؟ لقد عمَّر الذهب من حول داليدا، لكن قلبها ظل وحيدا وحزينا. لم تصدق ابنة شبرا أن باريس تنحني أمامها حقا بمثل هذا الإعجاب. ظنت أن المسألة كلها كلام فاضي يا سي حسن. حزنت ومضت.