6 ساعات مطر أغرقت جدة

TT

أغلى هدية يمكن أن يتمناها الناس في السعودية هي الغيث، الأمطار مهما كان الثمن، وذلك بعد سنين من الجفاف والعواصف الترابية والعطش. لم يمض على صلاة الاستسقاء طلبا للمطر عشرة أيام حتى فاض غرب السعودية، وصار فيضانا في جدة، المدينة المكتظة بالسكان التي صارت مثل إحدى مدينة نيو أورليانز التي أغرقها فيضان المسيسبي، باستثناء أن جدة مدينة بلا أنهار. نسبة الأمطار تلك الليلة لم تتجاوز 72 مليمترا كما يقول الأرصاديون، مع هذا جرفت نحو ثمانين شخصا إلى الموت في واحدة من أسوأ كوارث الفيضانات في البلاد.

ولأن هدية عيد الأضحى المبارك صاحبتها كارثة إنسانية فقد استقبلت الظاهرة المناخية بخليط من السعادة والخوف. فالمنطقة، لا السعودية وحدها، تمر بأسوأ حالة جفاف تسببت في نقص الأنهار وإهلاك المزارع وأشهر طويلة من عواصف غبارية لم يعلم بمثلها في التاريخ الحديث. وبالتالي كل رشة من السماء تستقبل بالسرور والعرفان. فهل يستحق الناس في أيام العيد أن يختلفوا حول نعمة السيل الجارف أم أن علينا أن نقتنع أن للكوارث الطبيعية ثمنا لا بد أن نرضى بدفعه؟ بالطبع نقبل وفي نفس الوقت نتوقع المحاسبة لأن ست ساعات مطر ما كانت تغرق مدينة وتضربها لو كانت مهيئة. المدن الكبيرة لها حاجات أساسية من بينها تصريف الأمطار وتأمين المياه لأيام الجفاف وغيره من الكوارث. كوارث المدن سببها اكتظاظها وسوء تخطيطها والتقاعس عن حل مشكلاتها القديمة ومعالجة كل أزمة بعد أن تمر العاصفة ثم تنسى حتى تهب العاصفة من جديد.

جدة اليوم غير جدة أمس، بثلاثة ملايين يسكنونها، يزيدون كل يوم فوق طاقة الخدمات التي صُممت في الماضي، وفي المدينة هوامش عشوائية من الناس الذين لا هوية لهم ولا خدمات ولا حل دائما. وبعد أن تجف الأرض وتغيب السحب يعود الناس إلى عادتهم القديمة، الوقوف في طوابير أمام صهاريج المياه. فمدينة جدة مدينة التناقضات، يتعب الناس فيها بسبب العطش ويموتون بسبب المطر وفيها أكبر بحيرة من الصرف الصحي يطلق عليها أهلها أسماء موسيقية!

والحقيقة أن أهل جدة ربما هم محظوظون رغم خسارتهم المؤلمة، فقد جاءت الكارثة لتضع الجميع أمام مشكلات المدينة الموروثة منذ عشرين عاما. كارثتهم صارت قصة عالمية، وحاجتهم صارت مسموعة، وأتصور أنها ستجد نجدة سريعة استثنائيا إذا سلمت من سلاحف البيروقراطية. وهكذا اشتدت الأزمة حتى انفرجت أو توشك.

والحقيقة أيضا أن جدة مدينة رائعة لا مثيل لها في العالم العربي، بخليطها وثقافاتها، كونها بوابة مكة، ومطار ملايين الحجاج والمعتمرين، وميناء التنمية الاقتصادية للدولة، وسوق البحر الأحمر. تملك من الفرص الكبيرة ما يجعلها مدينة خاصة جدا، وربما جاءت هذه الساعات الماطرة الست، والمليمترات السبعون من المياه، والضحايا الثمانون، مدخلا لجدة أفضل. وكل عام وأنتم بخير.

[email protected]