مراجعات في (ملفات سرية).. انبنت عليها سياسات وحروب

TT

والملفات (السرية) التي انبنت عليها سياسات، وترتبت عليها الحروب.. هذه الملفات كثيرة جدا.. ولذا نختار بعضها كأمثال تشير إلى جملتها:

1ـ في بريطانيا ـ الآن ـ توجه جاد إلى فتح ملف تورط المملكة المتحدة في الحرب على العراق. ولقد شكلت لأجل ذلك لجنة سميت (لجنة تشيلكوت).. وفي بدايات عمل هذه اللجنة أدلى رئيس لجنة الاستخبارات المشتركة السير بيتر ريكيت، ومسؤول دبلوماسي كبير ـ هو السير وليام بايتي المسؤول عن شؤون الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية: أدليا بشهادة متطابقة تقريبا، خلاصتها: أن بريطانيا رفضت خطة أمريكية للإطاحة بصدام حسين ونظامه في وقت مبكر (فور تولي جورج بوش الابن مقاليد السلطة في فترته الأولى وقبل وقوع أحداث 11 سبتمبر)!!.. وقالا ((إن الرئيس الأمريكي السابق قد عرض هذه الخطة على الحكومة البريطانية، إلا أن أجهزة الاستخبارات البريطانية رفضت تصديق مزاعم الإدارة الأمريكية بأن هناك علاقة بين صدام حسين وأسامة بن لادن)).. (وثمة أزمة برلمانية ديمقراطية تتمثل في كتمان توني بلير معلومات الحرب عن مجلس العموم)!!.

2 ـ في كتاب جديد له، قال القاضي الفرنسي المتخصص في قضايا الإرهاب: جان لوي بروغيير: ((إن إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش لعبت دورا خطيرا في (تغيير) المعلومات المتعلقة بالارتباط بين النظام الإيراني وتنظيم القاعدة والتي كنت قد قدمتها إلى إدارة الرئيس بوش)).. ثم قال القاضي الفرنسي: ((إن إدارة بوش غيرت وبدلت المعلومات التي قدمتها له بحيث حولت أصابع الاتهام من النظام الإيراني إلى النظام العراقي بهدف توريط الأخير في الإرهاب تمهيدا لشن حرب عليه وإسقاطه)).  

إن هذين الملفين المشتركين يكشفان:

أولا: إن خطة غزو العراق كانت في أدمغة بوش وفريقه قبل أن يصلوا إلى البيت الأبيض ومن هنا فإن غزو العراق كان أول أولياتهم ـ بإطلاق ـ

ثانيا: إن خطة الغزو صممت قبل أحداث 11 سبتمبر، ولم تكن هذه الأحداث سوى ذريعة ظاهرية لتحقيق أهداف مبيتة (هناك نظريات تقول: إن الأحداث نفسها مفتعلة لتسويغ الغزو حيث إن غزوا كهذا يحتاج إلى مبرر ضخم)!

ثالثا: إن القاضي الفرنسي يجزم بأنه قدم ـ لإدارة بوش ـ معلومات تفيد بأن هناك علاقة بين النظام الإيراني وتنظيم القاعدة، ولكن الإدارة الأمريكية تعمدت تغيير هذه المعلومات وتوظيفها في اتجاهين:

أـ اتجاه خدمة النظام الإيراني بإبعاد التهمة عنه (وهي الإدارة التي كانت تعلن عداوته الظاهرية بدأب)!

ب ـ اتجاه خدمة مخطط غزو العراق.

3ـ الملف الثالث هو: أن الاستخبارات الأمريكية منهمكة ـ في الوقت الراهن ـ في إجراء اتصالات ولقاءات مع (بعثيين) موالين لعزة الدوري (كان رئيس مجلس قيادة الثورة العراقي في العهد البائد)، وهي اتصالات تتركز على إيجاد تصورات معينة لمستقبل الحكم في العراق (أمريكا هي التي اجتثت البعث لصالح طرف إقليمي معروف)!

4ـ ومن الملفات السرية: أن الأمريكان منخرطون الآن في تفاهمات مع (طالبان) أفغانستان من أجل التوصل إلى صيغة تعود فيها طالبان إلى حكم أفغانستان، أو إلى حكم أجزاء منه: كحكم ذاتي ـ مقابل الكف عن الحرب ـ (وهذه القضية هي أحد دوافع زيارة رئيس وزراء الهند إلى الولايات المتحدة) ، بل إنه صرح علنا ـ هناك ـ بأنه من الكوارث الإقليمية: عودة طالبان أو فريق منهم إلى الحكم في أفغانستان.

5ـ ومن الملفات السرية الضخمة التي ربما خضعت للمراجعة في هذه الظروف: ملف (أوسلو)، وهو ملف سري النشأة والتكوين ترتب عليه سلوك سياسي لمدة عقدين من الزمان.. ثم تمخض أوسلو عن (تيه) جديد!

وسرية ملف أوسلو معترف بها من قبل صانعي هذا الملف، فقد ألف محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية كتابا عن أوسلو بعنوان (طريق أوسلو: موقّع الاتفاق يروي الأسرار الحقيقية للمفاوضات).. وفي هذا الكتاب يقول مؤلفه: ((إن الإسرائيليين لا يثقون بقدرتنا على حفظ الأسرار، ولذلك علينا أن نحيط الأمر بالكتمان التام والسرية التامة، وهذا يقتضي بالدرجة الأولى قطع كل الخيوط التي اطلعت على اللقاء الأول والإيحاء لها ـ إن سألت ـ بأن المسألة غير جادة وبأننا اتخذنا قرارا بعدم المتابعة، وإن لم تسأل فعلينا السكوت والصمت)).

وبديهي أن الخطأ ليس (في السرية) ـ بإطلاق ـ، فليس كل اتفاق سري خاطئا، بل هناك كثير من الأجندات السرية كانت صائبة وترتب عليها نجاح سياسي أو استراتيجي.

وإنما الخطأ أن تكون السرية ظلمة مطبقة تهضم فيها الحقوق: بسرية تامة!!

إن أهل أوسلو يقولون: إن إسرائيل لم تلتزم به.. هذه هي الأزمة عندهم.. ومما لا ريب فيه أن إسرائيل مَرَدَت على عدم الالتزام بأي اتفاق: سريا كان أم علنيا: إلا اتفاقا ترى أنه يخدم أجندتها الخاصة في الحاضر والمستقبل، ولذلك عمدت إلى إهدار قرارات مجلس الأمن كافة.

هذا كله صحيح.

وصحيح أيضا: أن في أوسلو (ثغرات) أو خطايا فلسطينية استغلتها إسرائيل لصالحها.

من أفدح هذه الثغرات المدمرة في أوسلو: تمكين إسرائيل من (اللعب بالزمن المفتوح) من خلال موافقة المفاوض الفلسطيني على (ترحيل) القضايا الكبرى إلى المرحلة النهائية، أي قضايا: القدس.. واللاجئون.. والمستوطنات.. والترتيبات الأمنية.. والسيادة.. والحدود.. صحيح أن هناك قيدا على الزمن مثل النص على ألا تتعدى مفاوضات الوضع النهائي بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية، ولكنه قيد (نظري) جد نظري حيث إن الواقع كله، والوقائع كلها في يد إسرائيل وحدها. ومن ثم فهو قيد لا يخرج عن دائرة (الرجاءات أو التوسلات) وهي رجاءات لم تصغ إليها إسرائيل، بل مضت في التوسع الاستيطاني وتهويد القدس والإصرار على رفض حق العودة.. يقول شمعون بيريز في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) عن حق العودة: ((والمطالبة بحق العودة ليست هناك أية فرصة لقبولها سواء الآن أو في المستقبل، فلا توجد حكومة إسرائيلية واحدة توافق على استراتيجية من شأنها أن تدمر كياننا الوطني)).

والخلاصة المستنبطة مما تقدم:

1ـ أن هناك ما يمكن تسميته بـ(الباطنية السياسية)، وعلى القادة العرب أن يفتحوا عيونهم عليها.

2ـ أن الغلو في القول بالمؤامرة يتوجب نقده، بيد أنه نقد لا ينبغي أن يصل إلى حد نفي المؤامرة، فإذا كان الغلو في المؤامرة (خدمة لها)، فإن نفيها ـ بإطلاق ـ (جزء منها).. ثم هو نفي يصطدم بوقائع موضوعية عديدة، ولا سيما في مجال السياسات والاستراتيجيات (راجعوا ـ في هذا المقال نفسه ـ ما قاله المسؤولان البريطانيان وما قاله القاضي الفرنسي عن خفايا غزو العراق).

3ـ أن المؤامرة ليست (جِنًّا) يعمل بغير وسائل مرئية، ذلك أن المؤامرة تتسلل إلى حصوننا من خلال ثغرات وخطايا الذات.. ومنها: العنف باسم الإسلام أو تنظيم القاعدة.. وطيش صدام حسين.. وخطايا المفاوض الفلسطيني في صميم اتفاق أوسلو الخ.