لماذا أفضل الكريكيت على كرة القدم؟

TT

لم يخطر ببالي أنني سأكتب يوما عما يتعلق بكرة القدم لأنني لا أتفرج على مبارياتها (باستثناء واحدة حضرتها قبل 42 عاما مع زميلة دراسة صارخة الجمال لتشجيع فريق شقيقها ولحاجة في نفس الكاتب)، ولا أفهم قواعد اللعبة كالفرق بين التماس والتسلل. فبحكم تعليمي الإنجليزي ونشأتي مارست رياضة الكريكيت، وبعد مغادرة جسمي فصل الصلاحية الرياضية لا أتفرج إلا على مباريات الكريكيت بقواعدها المعقدة وامتدادها أياما.

ونريح الأعين في صالة الأخبار بنقلها من شاشة الكمبيوتر إلى شاشة تلفزيون مباراة الكريكيت. ولمبارياتها جو احتفالي؛ نحضرها بالبذلات الكتان والقبعات البنما.

ولأن بريطانيا طبقية، فإنها رياضة الطبقات المتوسطة بالاتجاه لأعلى، ولا تسمع فيها هتافات أو ترى لاعبا ينطح الخصم (كما فعل لاعب الكرة الفرنسي زيدان مرة ضد لاعب الفريق الإيطالي).

وكأي لعبة اخترعها الإنجليز، فإن أبناء المستعمرات التي نقلت إليها غالبا ما يلحقون بالفريق القومي الإنجليزي هزائم قاسية كما يفعل الهنود والاستراليون والجامايكيون، ومع ذلك لم تقع حادثة واحدة في تاريخ اللعبة أو حتى قبض البوليس على واحد من آلاف المشاهدين الخارجين من «لوردز»، أشهر ملعب كريكيت في العالم، إلى محطة سانت جونز وود.

اضطررت لتأجيل الكتابة عن لجنة السير جون تشيللكوت التي تحقق في ملابسات حرب العراق، بعد تطورات تجاوزت كلمة «مؤسفة» نتيجة مباريات كرة القدم بين الجزائر ومصر، بسبب تصرفات متطرفين من المشجعين من الجانبين (لاحظوا أنني أستخدم كلمة مشجعين وليست مشاهدين التي استخدمتها لوصف متفرجي الكريكيت)، لتصل في حدتها الإعلامية ما يسبق الحرب المسلحة.

ولا يحضر ذاكرتي سابقة سوى حرب كرة القدم La guerra del futbol التي استمرت 100 ساعة بين السلفادور وهندوراس في 14 يوليو 1969 أثناء التصفيات لمونديال 1970 عندما عبرت قوات السلفادور حدود هندوراس إثر تقاتل المشجعين (موضوع الهجرة غير الشرعية لهندوراس من جارتها زاد من مشاعر العداء) وقصف من الجو حتى تدخلت منظمة الدول الأميركية وحددت يوم 20 يوليو هدنة (بعد اتصال الرئيس الأميركي ليندون جونسون تليفونيا بزعيمي البلدين ليسكب في مسمعيهما درسا قاسيا وأمرا بالتوقف)، وانسحبت قوات السلفادور بعد ثلاثة أسابيع ولم توقع البلدان اتفاقية عدم اعتداء سوى في أكتوبر 1980.

سبب استخدامي كلمة مشاهدين لمتفرجي الكريكيت هو تمسكهم بتقاليد الطبقة الوسطى الإنجليزية، الأكثر تهذيبا وأدبا في العالم (يشكرك الإنجليزي على تفضلك بالسماح بأن يؤدي لك خدمة؛ ومتفرجو المسرح الإنجليز، لا يصدر عنهم صوت أثناء المسرحية، ويصفقون فقط عند إسدال الستار، ويتعجبون عندما يصفق متفرج زائر أجنبي ـ غالبا أميركي ـ تحمسا لأداء أو كلمة أعجبته أثناء العرض).

استخدمت «مشجعين» مرادفا لمباريات كرة القدم، لتصرفهم كمشجعين قبليين مثل شعراء قبائل الجاهلية. فلا يمر أسبوع إلا وتدور المعارك في الشوارع المحيطة ببعض الملاعب بين أقلية من مشجعي الفريق المهزوم والبوليس، لتفريقه بينهم وبين ضرب مشجعي الفائز.

اتحاد الكرة الإنجليزي يعرف سمعة بضعة آلاف من مشجعي الكرة، ولذا يطلب من سكوتلانديارد إرسال بعثة من بوليسها إلى البلد الذي سيلاعبه المنتحب القومي الإنجليزي لتقديم النصح والمشورة لبوليس البلد المضيف ومساعدتهم على محاصرة المشاغبين ومنعهم من دخول الملعب (حاولت وزارة الداخلية مرة إلغاء صلاحية باسبورات المعروفين بالشغب لمنعهم من السفر لإيطاليا، فرفع محامي أحدهم قضية خسرها وزير الداخلية ودفع للمشاغبين تعويضا لانتهاك حقوقهم المدنية).

وتجتمع الصحافة الإنجليزية من اليمين واليسار ـ حتى الشعبية المعروفة دائما بدق طبول الوطنية الشوفينية ـ على إدانة تصرفات المشاغبين ومناشدة المشجعين التمتع بروح رياضية وعدم تلطيخ صورة بلادهم في الخارج والعمل عن التبليغ عن أسماء المشاغبين للبوليس.

للأسف غاب مثل هذا التصرف المسؤول عن كثير من الصحف المصرية والجزائرية، رغم أن الزملاء المتخصصين في تغطية كرة القدم في البلدين أكثر مني علما بالشغب والإثارة الذي يبلغ حد العدوانية المصاحب لمشجعي كرة القدم.

وربما يكون الطمع في زيادة التوزيع وراء تسربل بعض الصحف بعلم بلادها في التغطية؛ ولا شك أن عددا معتبرا من المشجعين الجزائريين والمصريين تصرفوا بشغب وعدوانية وافتقدوا الروح الرياضية واحترام ممتلكات الآخرين، لكن أن يتجاوز التصرف غير المسؤول الأشخاص وناشري الصحف «الطماعين» إلى الأجهزة الرسمية، فهو الأمر المحزن لبلدين ينتميان لقارة واحدة وتجمعهما اتفاقيات تعاون وتجارة، وحتى دفاع مشترك في كل من الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية.

لا شك أن مشاهد مشجعين يعتدون على الآخرين باللفظ وحركات الأيدي والمقذوفات أو تسيل منهم الدماء هي مشاهد قبيحة تشوه صور كل الأفارقة وليس المصريين والجزائريين فقط، لكن الأكثر قبحا مشهد طائرات نقل جزائرية عسكرية في مطار الخرطوم ـ الجسر الجوي ـ نقلت (12 ألفا حسب أصدقاء في الخرطوم) جنودا صدرت إليهم الأوامر العسكرية « بتشجيع» فريقهم، بحماس يفوق إرسالهم بهذه الأعداد بجسر جوي إلى مصر (وتربطها بالجزائر معاهدة دفاع مشترك) وهي تخوض حرب استرداد سيناء 1973 التي فقدتها نتيجة حرب تورطت فيها دفاعا عن سورية (حسب اتفاقية الدفاع نفسها) عام 1967 التي سبقتها مناوشات سورية إسرائيلية بقصف المدفعية الإسرائيلية جرافات سورية بدأت في تحويل نهر اليرموك بعيدا عن بحيرة طبرية الواقعة في إسرائيل.

وإذا انتقد البوليس المصري لإخفاقه، يوم المباراة، التفريق بين مشجعي الطرفين وعدم القبض الفوري على من قذف الأحجار على باص الجزائريين وتقديمهم للمحاكمة (بتهم: الاعتداء، والشغب، وإتلاف الممتلكات، وأفعال فاضحة في مكان عام)، فما هي ذرائع البوليس الجزائري، بعد أيام من انتهاء المباراة، في الإخفاق في حماية شركات كمصر للطيران ومصر للبترول، وأي منشاة تحمل اسم مصر ـ رغم أن أكثرية موظفيها أو منتفعيها أو حملة أسهمها من الجزائريين، وجنسيات أخرى قبل المصريين.

بل إن قلبي على الجزائر لأن تعرض هذه الأعمال للاعتداءات يخيف المستثمر الأجنبي الذي تحتاجه أي بلد لنجاح اقتصادها وتوظيف أبنائها.

من المحزن أن يتطور الأمر لهذا الحد بين بلدين تربطهما مصالح مشتركة وبينهما تجارة وزيارات وتاريخ من التعاون الدبلوماسي، أكشف للقارئ أحد أهم جوانبه وهو الجهود المضنية التي بذلها حسنى مبارك، نائب رئيس الجمهورية المصرية عام 1976 لإنقاذ 5000 من القوات الجزائرية من الأسر ناهيك عن الجوع والعطش بلا تموين في منطقة سمرة في جنوب المغرب، بعد أن حاصرتهم القوات المغربية وكانت أكثر عددا وأفضل تسليحا وتدريبا عندما دخلت القوات الجزائرية أراضي المملكة المغربية في حرب قصيرة بين البلدين لم تكن كرة القدم أحد أسبابها.