إدارة التعدد

TT

إن أحزابنا العربية، أو الأحزاب في البلاد العربية عموماً، اعتبرت التعدد، أي تعدد، حزبي سياسي أو ديني أو ثقافي أو مذهبي أو سلالي أو فني أو أدبي، اعتبرته عيباً، وأن على الحزب إصلاحه وإن اقتضى ذلك إلقاء مرتكبه أو المتهم به، ولطالما أضفت الأحزاب على توجهها هذا طابعاً أخلاقياً يؤكد تهافت فهمها (العلمي) غير العلمي للأخلاق، أو إصرارها على التعامل مع المسألة الأخلاقية تعاملا ذرائعيا ملغوما بمضادات الأخلاق ونقائضها. من هنا عملت أحزابنا، بمقدار ما أتيح لها، من خلال السلطة الحصرية. أو المشاركة في السلطات. وعلى النمط النازي والشيوعي والفاشي، على إلغاء مظاهر التعدد وتعبيراته، في خطوات على طريق اجتثاث أصوله التي، وإن تكن تكوينية، فإنها لم ترها إلا عابرة ومن إنتاج حركة التاريخ ودورة الحياة العامة ومنازعاتها السياسية والاقتصادية، وكان ذلك، أي الإلقاء، يتم في العادة، على موجب غلبة طرف على آخر ولصالح الطرف الغالب أو المتغلب دائماً.. ولعل ذلك ما يسهم في فضح المدعى التقدمي في خطاب التغيير الحزبي الذي سمعناه.

لقد انتهت أحلام أو أوهام الإلغاء المعاندة أو الجاهلة بالسنن الإلهية وقوانين الحياة.. إلى ممارسات قاسية وشنيعة، ما أسهم في إعادة تركيز الوعي بالفوارق الإثنية، التي ما لبثت أن انفجرت بعنف مضاعف، في اللحظة التي فقد الحزب الحاكم سيطرته على الدولة والمجتمع.. أو بدأ بفقدانها.. وهي اللحظة التي أخذت الدولة تفقد فيها سيطرتها على نفسها وعلى الحزب الحاكم والمجتمع معاً ـ يوغوسلافيا السابقة مثلا ـ وفقدت الإثنية الراجحة أو المرجَّحة أو الغالبة أو الطاغية والمتغلبة والمتحكمة، قدرتها على التحكم، بفعل فاعل غير مجهول، أو بفعل انهيار داخلي غير مفاجئ، لأنه كان قد تراكم على مدى عقود وأجيال، وفي حالة من العمى الأيديولوجي الوبائي الذي منع من رصد الوقائع والأفكار والسلوكيات واستشراف مآلاتها ونهاياتها المنطقية.

وعليه فإن التعدد ليس عيباً، والعقلاء من البشر يتفقون على أنه ضرورة حياة واجتماع وإبداع وتقدم وتقوى وسلام وحوار، والعيب أو الخطر يكمن في طريقة إدارة التعدد والأهداف التي تحكم هذه الإدارة، ولا يمكن التخفيف أو الخلاص من هذا العيب أو الخطر بغير الديمقراطية، التي تنتكس إذا ما اعتبرناها، كما حصل حتى الآن، وصفة نهائية لكل الحالات، ولم نلتزم بتمريرها في قنوات ثقافاتنا المتمايزة أو المتغايرة جزئياً وأنظمة علائقنا وموروثنا وخصوصياتنا وانتظاراتنا، وهي، أي الديمقراطية، بهذه الشروط الضخمية عليها أولها ولنا، هي الفضاء الذي يستدعي ويتيح المشاركة ويصححها عند وقوع الخلل.

هل يرتفع التعدد في وعينا إلى ما يتجاوز التسليم به مضطرين كواقع صعب؟ إلى أطروحة تقوم على الشراكة بين سائر مكوناتنا وحساسياتنا وأجيالنا؟ بعيداً عن أوهام الغلبة المطلقة والمستحيلة، والتي تمليها اعتبارات الأعداد أو ما يتوفر من قوة واعتبارات مختلفة تكون من مكونات اجتماعنا الوطني؟ هذه الغلبة المستحيلة، يظهر في لحظة ما بشكل خادع أنها متحققة لطرف على طرف أو لون من ألوان الطيف على لون آخر، ولكنها سرعان ما تؤول إلى سراب تاركة وراءها كوارث تعود لتترتب على الطرف الآخر الذي يتوهم أنه يثأر لنفسه ويحقق مصالحه الذاتية واستقراره، بالغلبة المطلقة الموهومة، على من كان قد غلبه سابقاًّ!

إن القبول بنسبة من الغلبة على أساس سياسي أو متغير حقيقي في موازين القوى، قد يكون مقبولا إذا حصل، خطأ أو صواباً، وقد يؤدي إلى توكيد مسار أو سياق التداول والتبادل، الأساس في معنى الدولة وآلية إدارتها، وقد يؤهلنا بالتالي للمشاركة، لا الإذعان، مقدمة للاستحواذ علينا أو استحواذ بعضنا على بعض.. هذا يعني أن نرى ونقر بأن لنا شروطاً لا تتحقق إلا في الآخر، القريب والبعيد، وبكل بما يناسبه ويعود علينا وعليه بالفائدة، سواء كنا متفقين مع هذا الآخر أو مختلفين، نسبياً في كلا الحالتين، إذ لا إطلاق أبداً في الاختلاف والاتفاق... أليس لازماً أيضاً أن نحذر من أدلجة الديمقراطية، وبدل ذلك نعمد ونجتهد في توطينها أو تبيينها، من خلال التوفيق المنهجي والواقعي بين الخاص والعام في إطارها وتطبيقها؟

كيف نستنهض أشكال وتشكلات وأوليات التضامن السياسي والاجتماعي الوطني؟ بمؤسسات مدنية، يجب ويمكن أن ترتقي إلى مستوى الضرورة أو الممر الإجباري إلى الدولة الحديثة أو الدولة المدنية؟ وإذا كان ولا بد من حياة حزبية وأحزاب فلتكن على قياس الحاجات المدنية، وذلك لن يحصل إلا إذا أقمنا الحزب على قراءة اجتماعنا وشروطه وذاكرته ومحمولاته وتوقعاته لننتظم وننظم على منزلتها، وإني لألح على القول بأن الحرص ضروري على الدين والدولة، كل من أجل الآخر، والاثنان من أجل الإنسان ومجالان لتحقيق الغائية الإلهية والشرط الإنساني - الحرية - أي التكوين والضرورة، وذلك يقتضي ترسيخ وتجسيد قناعة نعمل معاً معرفياً على بلورتها وتعميمها مع الإبقاء على مساحة محفوظة لمراعاة الخصوصيات، أعني القناعة بالتمايز لا التفاصيل ولا الفصال بين الدين والدولة، هذا التمايز الذي يعني أننا حيال اثنين لا واحد، وأننا إذا اعتبرناهما واحداً فإننا نلغي أحدهما بالآخر ونلغي كلا منهما بذاته.. كيف نخرج من الخطر الذي يتهدد هذين الشأنين الأشد جدلا وحيوية ووجوداً ووجوباً في حياة الإنسان؟ في الدنيا والآخرة، إن لم ننهمك معاً في معترك ومشتبك ومشترك مصرفي للإجابة على السؤال عن التمايز بينهما ومدى ملاءمته للتكامل الوظيفي بينهما؟ وإلا فإن هناك من هو جاهز لتجديد وتشغيل لائحة الأسئلة الصعبة والاستنكارية حول أهلية الدين لإنتاج المجتمع فضلا عن الدولة!

* مفكر وكاتب لبناني