بين «هلالين»

TT

حصر العالم العربي اليوم بين هلالين، هلال قومي عروبي خرج من مصر والآخر الخصيب، وهلال طائفي وإسلاموي يستمر حراكه من خارج العالم العربي عبر منظومة غير مسبوقة من الدعم الواضح والتأجيج الصريح. الهلال الأول القديم بنى صيته ومجده وإرثه على شعارات جوفاء مستندا إلى زعامات نادت بالوحدة والبعث والعروبة والاتحاد، ولكنها في واقع الأمر خلفت حلقات من الانتكاسة والهزيمة والذل والانكسار، وبنظرة متأنية في تاريخ «أيقونتي» القومية عبد الناصر وصدام حسين يمكن التأكد من ذلك. فعبد الناصر الذي كان يلوح بعلم العروبة ليلا ونهارا تمكن وحده وبعبقريته من «معاداة» السعودية والأردن وسورية (لاحقا بعد تجربة وحدة فاشلة) واليمن (اعتدى عليه (والعراق و)فصل السودان) ولبنان (زرع عناصر استخباراتية وساهم في اغتيال بعض رموزه)، وطبعا لا يمكن نسيان أنه ساهم بصورة مباشرة في فقدان الضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء بسبب عنترياته غير المحسوبة ومجاملة لصديقه عبد الحكيم عامر الذي بعد أن أفقده الوحدة مع سورية استمر في قيادة الجيش المصري! أي عروبة هذه؟! والثاني القائد الملهم المهيب الذي عادى سورية وكاد يدخل في حروب معها، واحتل الكويت وهدد الإمارات وحاول الاعتداء على السعودية وقام بإطلاق صواريخ عليها وكان يتحرش بالأردن دائما، وعقد مؤتمره الشهير لطرد مصر من جامعة الدول العربية داعيا إلى مقاطعتها، وموّل ميشال عون وزمرته للانقلاب على الحكم في لبنان، «خوش عروبة عيني». أما النموذج الثاني الذي يتغطى بعباءة الدين فهو يوجه سهامه ورصاصه إلى الداخل العربي ويفتعل المعارك والمشكلات في الداخل العربي بدلا من تسليطه على العدو الإسرائيلي المحتل، فأقام المعارك في الجزائر والصومال والسودان واليمن والعراق ومصر والمغرب والسعودية ولبنان والأردن بأشكال مختلفة بعد أن يتم تكفير الأنظمة والشعوب، وبالتالي يستباح المال والناس وتصير كل الأعمال والأفعال مشروعة بفتاوى وآراء «مجنونة».. بينما يتخفى المحرضون والزعماء لهذا كله من وراء كهوف وجحور يقودون القطيع إلى الهلاك بأجهزة تحكم عن بعد وغسيل عقول عن قرب.

هذا هو الحال البائس اليوم، ولكن لا بد من أن يكون هناك خيار ثالث، خيار نحو الإصلاح، نحو السوية، نحو الحق والحقوق، هذا ما يستحقه جيل شباب يشكل أكثر من 60% من تعداد العالم العربي، جيل يستحق الانتماء إلى العالم السوي وأن يحقق طموحه وآماله للعيش بكرامة وأمان، وأن ينال الطموح المنشود في تعليم محترم وقضاء عادل. الشعارات لم تحقق شيئا للعرب، فلنراهن على الإصلاح والتنمية والحوار، فلنراهن على طريق ثالث لم يجرب من قبل بدلا من السير خلف الأبواق العالية واللافتات الكبيرة وهي التي تسببت في ما نحن فيه من فتنة وفساد وخوف وهلع وانكسار كبير. الوعود والأحلام تحولت إلى سجون وكوابيس، والثروات إلى فقر وجهل، والأمل إلى سراب. الأحلام والوعود الكبرى خلف الأشخاص الصغيرة هكذا تكون نتائجها. ما زلت أصاب بالذهول من مشاهد الفلسطينيين وهم يتظاهرون في غزة حاملين اللوحات وصور عبد الناصر وصدام حسين.. حتى الآن! وذلك بعد معرفة الأكذوبة التي كنا نعيشها. مكالمة إيقاظ كبرى يجب أن تهز سكان العالم العربي ليفيقوا من سبات الوهم وليعملوا ويعوا لغدهم بلا خداع.

[email protected]