إسرائيل في مواجهة المأزق الاستراتيجي

TT

أطراف كثيرة حاضرة في الجدل السياسي الدائر حول أوضاع المنطقة العربية، وبالتحديد حول علاقة إسرائيل بأوضاع المنطقة العربية.

إسرائيل حاضرة في مقدمة المشهد، ولديها استراتيجيتها وتكتيكها.

والولايات المتحدة الأميركية حاضرة في الصفوف الأمامية، تتقدم وتتأخر، تهدد وتتوعد، تعرض وتغري، ولكنها لا تخرج في النهاية عن تلبية مطالب إسرائيل.

وإيران حاضرة في المشهد، تسعى لتفرض نفسها قوة إقليمية، وتستعمل برنامجها النووي ورقة مساومة متصلة.

وتركيا حاضرة أيضا، وتتقدم في مسعاها كل يوم، وتكاد تصبح بسرعة اللاعب الأساسي في المنطقة.

ولكن هناك غائبا كبيرا عن المشهد، هو الموقف العربي الموحد. يشارك العرب في رسم الصورة فرادى. موقف رافض هنا وموقف رافض هناك، ولكنها مواقف لا تشكل سياسة موحدة، ولا تشكل سياسة جماعية تضامنية.

داخل هذه الصورة توجد عيون إسرائيلية مفتوحة جيدا. مفتوحة إلى حد التحديق. التحديق الذي يكاد يزيغ البصر. وفي هذا التحديق ترى إسرائيل صورة حولها تتركب كما يلي:

إيران تواصل العمل في الميدان النووي، فإذا وضعت قدميها على أبواب القدرة على صنع السلاح النووي، يكون التوازن الاستراتيجي قد اختل في منطقة الشرق الأوسط. إسرائيل تعتبر امتلاكها للسلاح النووي البند الأساسي في حفظ استقرار منطقة الشرق الأوسط لصالحها، فإذا دخل العامل الإيراني يخفت دورها، وتنشأ حالة جديدة. حالة استقرار جديدة. لا يعرف بعد من سيلعب الدور القيادي فيها: العرب، أم تركيا، أم إيران.

وتواصل إسرائيل التحديق في الصورة حولها، وترى أن حزب الله في لبنان قد استعاد قوته، بل وطورها، وأصبح يمتلك 40 ألف صاروخ، قريبا من حدودها. وهي صواريخ تعني أن أي حرب جديدة قد تنشب فإن جزءا أساسيا من ميدانها سيكون داخل دولة إسرائيل، فقد مضى الزمن الذي كانت فيه إسرائيل تدير حروبها مع العرب خارج حدودها.

ولا تستطيع إسرائيل أن تواصل عملية التحديق من دون أن تلتفت بعيونها نحو قطاع غزة. صحيح أنه قطاع مدمر، وصحيح أن المال محجوب عنه بحيث لا يستطيع إعادة الإعمار، وصحيح أن حصاره مستمر منذ أن انتهى العدوان الإسرائيلي عليه، ولكنه قطاع استطاع رغم كل ذلك أن يصمد، وأن يجدد بنيته، وأن يمتلك أنواعا جديدة من الصواريخ لحماية نفسه. وصواريخه أقل فعالية من صواريخ حزب الله، ولكنها قادرة أيضا على الوصول إلى داخل حدود دولة إسرائيل.

وتظهر في عملية التحديق الإسرائيلية سورية وجيشها. وتظهر أيضا وضعيتها السياسية الجديدة التي استطاعت اختراق حواجز دولية عديدة وضعت حولها وأمامها في السنوات السابقة، بحيث أصبحت دولة يسعى كثيرون لبناء جسور علاقات قوية معها. وهي تحظى في الوقت نفسه بتحالف لا يمكن تجاهله: مع السعودية من جهة بعد زيارة الملك عبد الله لها، وبعد المعاني والمضامين التي حملتها تلك الزيارة في أحشائها، ومع إيران من جهة ثانية، وأخيرا مع تركيا من جهة ثالثة.

هذه الصورة السياسية التي تراها إسرائيل من خلال عملية التحديق المكثفة، تبدو لها صورة غير مطمئنة، بل وربما صورة مخيفة، وبخاصة أمام احتمالين في إطار المعالجة الممكنة: احتمال المراقبة والاكتفاء بالمراقبة. أو احتمال التحرك، والتحرك عسكريا بشكل خاص، لتفكيك هذه الصورة أو تغييرها. فهل تفعل إسرائيل ذلك؟ وبكلمات أوضح وأصرح: هل تذهب إسرائيل إلى الحرب سريعا، لكي تدمر عناصر اللوحة التي يكاد يكتمل رسمها من حولها؟

أيام الرئيس جورج بوش، كانت إسرائيل تبدو مرتاحة. فالاستراتيجية الأميركية تتجه نحو شن حرب ضد إيران. وكانت إسرائيل تطمح أن يكون لها دور مشارك أساسي في تلك الحرب، فتخرج منها قوية وفاعلة في الحفاظ على مكانة استراتيجية لها في منطقة الشرق الأوسط. أما في أيام الرئيس أوباما فإن التكتيك الأميركي يسير (حتى الآن) في منحى آخر يفضل سياسة الضغط الدبلوماسي والحصار والمقاطعة، على سياسة شن الحرب. وهو لذلك يلجم تحريض إسرائيل على ضرورة شن حرب سريعة ضد إيران.

في مواجهة هذا النهج الأميركي الذي لم يحسم أمره بعد، تبدو إسرائيل قلقة ومضطربة. ويدرك الأميركيون قلقها واضطرابها، ويقولون لها، إنه لا بد من تقديم شيء ما، شيء يبدو أساسيا على صعيد التسوية السياسية مع الفلسطينيين والعرب، لكي يمكن التفرغ بعد ذلك لمواجهة الموضوع الإيراني. وهنا تقترح أميركا على إسرائيل وقف الاستيطان بالكامل، فترفض إسرائيل، وتراعي واشنطن رفضها، وتطاوعها، وتتراجع عن هذا المطلب، وتقبل بعرض إسرائيلي لتجميد الاستيطان مؤقتا، ومن دون القدس، ولمدة عشرة أشهر فقط. ويخرج جورج ميتشل ليمتدح هذا الموقف الإسرائيلي الذي لا سابق له في تاريخ الحكومات الإسرائيلية، حسب قوله.

ولكن إسرائيل تخوض في الوقت نفسه مفاوضات مع حركة حماس، لمبادلة الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط، الذي مضى على أسره أكثر من ثلاث سنوات، بوساطة ألمانية، بعيدا عن وساطة مصرية لم تنجح. وهنا تتقدم واشنطن من جديد، تقول لإسرائيل إن إنجاز الصفقة مع حماس سيؤثر على وضع السلطة الفلسطينية، وعلى سمعة الرئيس محمود عباس، وتحضها على اتخاذ خطوات إضافية تقوي من وضع الرئيس. وتقترح عليها الإفراج عن ألف أسير إضافي لصالح السلطة الفلسطينية. ولا تبدو إسرائيل ميالة لمثل هذا الاقتراح، فهي تتعامل مع قضية الأسرى بسادية تمنعها من أي تفكير منطقي.

وتطلب أميركا من إسرائيل أيضا، خطوات أخرى مشجعة. أبرزها القبول بنقل أراض إلى السلطة الفلسطينية، من منطقة (ب) ذات الإدارة الفلسطينية ـ الإسرائيلية المشتركة، ومن منطقة (ج) ذات الإدارة الإسرائيلية الكاملة. ولكن العقل الإسرائيلي لا يستسيغ هذه المطالب، فإذا كانت أميركا تفكر بمنطق سياسي، فإن إسرائيل تفكر بمنطق استيطاني، فالمنطقة (ب) هي منطقة القرى والأراضي الزراعية أو غير المأهولة، التي تريد الاستيلاء عليها في سياق شعار (الدولة الفلسطينية المؤقتة). والمنطقة (ج) هي منطقة الأغوار التي تريد استثناءها من صفقة التسوية، واستمرار سيطرتها عليها، كجزء من الأراضي التي تريدها، وكأرض تشرف على مياه نهر الأردن، التي تريد فرض المشاركة بها على الأردن وعلى العرب، إضافة إلى أنها المدخل إلى الشعار الإسرائيلي المطالب بأن يكون نهر الأردن هو الحدود الأمنية لدولة إسرائيل.

وبهذا يختلف التكتيك الإسرائيلي عن التكتيك الأميركي، وتبقى في منطقة الوسط بينهما قضية إيران وحزب الله وسورية وحماس في قطاع غزة. فماذا تفعل إسرائيل؟

لقد اعتدنا طوال 60 عاما من عمر إسرائيل، أن العقل الإسرائيلي لا يفكر إلا حسب ما يريد. واعتدنا على صحة مقولة هنري كسينغر بأن إسرائيل لا توجد لها سياسة خارجية، بل توجد لديها فقط سياسة داخلية (التوسع والاستيطان) تملي عليها كل مواقفها المعلنة.

فهل يتواصل فشل المحاولات الأميركية لإقناع إسرائيل باتباع تكتيكها السياسي؟

وإذا حدث ذلك، هل تخرج إسرائيل مجددا للحرب في اتجاه لبنان وسورية وغزة؟

وإذا خرجت لمثل هذه الحرب، فإلى أين ستمتد نيران هذه الحرب المشتعلة؟

هذا هو السؤال الذي بدأ يلوح في الأفق، وعبر التصريحات الإسرائيلية، وهو سؤال لم يعد من الممكن استمرار تجاهله.

وقبل أيام، وبعد انتهاء زيارة ديفيد بن أليعازر، وزير الصناعة الإسرائيلي، إلى تركيا، وصف الرئيس التركي الوضع الهادئ السائد حاليا بين الفلسطينيين وإسرائيل بأنه مضلل، وقد ينفجر في أي وقت.