مؤامرة تاريخية علينا.. أم علل في أنفسنا؟!

TT

لم يكن ينقصنا، لتكتمل صورة التفكك والتخاصم في جسم الأمتين العربية والإسلامية، سوى هذه «الحرب الرياضية» بين مصر والجزائر. صحيح أنها لم تصل بالدولتين إلى أبعد من استدعاء السفراء وتبادل التصريحات الحادة: ولكن أخطر من هذه الأزمة الدبلوماسية الصغيرة بين «بلدين شقيقين»، هي هذه المشاعر السلبية التي تفجرت على مستوى الجماهير الشعبية المصرية والجزائرية، وتكشفت عن حقيقة نغالب أنفسنا في عدم الاعتراف بها، وهي: ضآلة أو ضحالة روابط الإخوة والمصير بين الشعوب والدول العربية والإسلامية، اليوم، وبعد عشرات السنين من الاستقلال.

وبالرغم من كل ما ترتبط به من مواثيق ومنظمات ودوافع وحدوية.

إن هذه «المعركة» الأخيرة ليست سوى حجر جديد آخر يضاف إلى الجدران التي ترتفع يوما بعد يوم بين الدول العربية والإسلامية، أو هوة جديدة تحفر بينها بل وفي داخلها. من باكستان إلى المغرب، ومن جنوبي السودان والصومال، إلى كردستان وأفغانستان. ولا داعي لتعدادها أو تسميتها. فالعالم بأسره يعرفها ويتحسب لها. وكل إنسان عربي أو مسلم يعاني الأمرين من جرائها، ويخشى على مصيره منها.

لماذا وصلت الأمة ـ أو الدول والشعوب ـ العربية والإسلامية إلى ما وصلت إليه؟ سؤال حاولت مئات الكتب وألوف الدراسات ومئات ألوف المقالات الإجابة عليه، في مراكز الدراسات والجامعات، لتتوصل إلى ثلاثة استنتاجات كبرى: 1 ـ وجود مؤامرة غربية أو دولية متمادية على العرب والمسلمين، منذ الحروب الصليبية إلى الحلف الإسرائيلي ـ الأميركي الجديد، مرورا بعصر الاستعمار الأوروبي.

2 ـ العلة هي في أنظمة الحكم القائمة في العالمين العربي والإسلامي، ولن تتغير الحال إلا بتغيير هذه الأنظمة السلطوية بأنظمة ديمقراطية حديثة.

3 ـ المشكلة عقائدية وحضارية، والحل هو في العودة إلى الدين وسيرة السلف الصالح وتطبيق الشريعة وإعادة الخلافة والجهاد.

ويحار العقل العربي بين هذه الاستنتاجات، أو العلاجات الثلاثة. فلئن اعتمد نظرية المؤامرة، كان عليه أن يجند كل قواه لمحاربة المتآمرين عليه، وأن يهمل أو يسقط أي محاولة للإصلاح السياسي وللنهوض اقتصاديا واجتماعيا، بالإنسان العربي والمسلم. لأن الجمع بين الحرب والبناء مستحيل. أما إذا اعتمد نظرية الإصلاح السياسي المؤدي إلى الديمقراطية والتطوير والتقدم والتحديث، فثمة عقبتان تعترضانه:

الأولى: هي أن هذا الطريق طويل جدا وثماره بعيدة المنال.

والثانية: هي أن اعتماد الديمقراطية الانتخابية الغربية في الدول والمجتمعات العربية غير الناضجة لها، قد يؤدي إلى وصول الأحزاب العقائدية المتطرفة إلى الحكم، (كما حدث في فلسطين، أو كاد يحدث في دول أخرى)، التي سوف تمارس حكما سلطويا وليس ديمقراطيا. أما الاحتمال الثالث، أي الحل باسم الدين أو حكم رجال الدين أو إعلان الجهاد لنصرة الدين، فإنه سيقود إلى حرب عالمية ثالثة، بين «الأمة الإسلامية» والدول الكبرى، أي الولايات المتحدة والصين وأوروبا وروسيا. وهي حرب معروفة النتائج سلفا.

هل يعني ذلك أن طرق الخلاص من الأزمات والمحن والحروب التي تمزق الأمة وتوهنها وتهددها بالتفكك إلى دويلات وإمارات وولايات صغيرة متناحرة، هي طرق مسدودة؟ وأن على الإنسان العربي أو المسلم أن يكتفي بالصبر والانتظار والدعاء؟!

في الواقع، ليس هناك من «وصفة عجائبية» قادرة على شفاء الأمة، أي أمة، من كل عللها وحل كل مشاكلها. عقائدية كانت أم سياسية، أم ثورية أم انقلابية. فما تراكم في جسم الأمم والدول والمجتمعات، بعد مئات السنين من الحروب أو من رواسب الانحطاط والتخلف، لا يمحى أو يشفى، بعشرات السنين. ثم إن التكنولوجيا الحديثة دفعت بالعالم، في السنوات الثلاثين الأخيرة، مسافة هائلة إلى الأمام (الصواريخ، الحاسوب، الإنترنت، الهاتف الجوال، الفضائيات، إلخ..)، الأمر الذي فاجأ المجتمعات العربية غير المستعدة للمشاركة فيه. صحيح أن استيراد التكنولوجيا ممكن، وأن هناك دولا (كاليابان وكوريا ودول آسيوية أخرى) اختصرت حقبة دخولها في عالم التكنولوجيا الحديثة. ولكن هذه الدول بدأت «نهضتها» الحديثة بتغيير تفكيرها وتحديث ثقافتها وتخلت عن الكثير من الحنين إلى أمجادها السابقة وعداواتها التاريخية.

وهذا ما لم يحدث في معظم الدول العربية والإسلامية. بل حدث عكسه في أكثر من دولة.

العزاء الوحيد للإنسان العربي أو المسلم، قد يكون في أن دولا أخرى، كبيرة وعريقة، تتململ وتتمرمر، هي أيضا، في أزمات متلاحقة وعنيفة ومتنوعة. فالأزمة المالية والاقتصادية الأخيرة هزت أركان النظام الاقتصادي الحر الذي قيل إن التاريخ توقف عنده. وقبلها كانت الحرب الباردة بين الشرق والغرب. وقبلها الحربان العالميتان الأولى والثانية. وقبلهما مئات السنين من الحروب بين الدول الأوروبية رغم وحدة إيمان شعوبها بدين واحد. والتحديات الجديدة التي تجابه الدول الكبرى اليوم، بل والعالم، لا تقل خطورة على مصير الإنسان فيهما، من خطورة التحديات «الخاصة» التي تواجه الإنسان العربي.

ولعل نافذة الأمل الوحيدة للخلاص هي في اقتناع الدول الكبرى والغنية بأنها لا تستطيع حل مشاكلها ومشاكل العالم، بالقوة بل بالتعاون مع بعضها ومع الدول الصغيرة. واقتناع الإنسان العربي والمسلم، قبل حكامه، بأنه دخل عصرا جديدا تتشابك وتترابط فيه مصائر الشعوب والدول، وأن السلام والحوار والمعرفة والحرية، وليست القوة والحرب والعصبية، هي السلاح الحقيقي، والطريق الأسلم. وأن تغيير ما في النفوس هو الخطوة الأولى في هذا الطريق.