اللهم هبنا من لدنك رحمة

TT

يخفي ادعاء التواضع، أحيانا، رغبة في الامتداح. والتواضع الكاذب أسوأ بكثير من الاختيال الفارغ، أو الادعاء الهوائي. وكلما قرأت في سير الرجال، أتمهل أمام صفحة، ثم أتساءل، ماذا فعلت خلال هذا العمر؟ ماذا حققت؟ ماذا أنجزت؟ أين أنا من الذين كتبوا للأجيال؟ أين ضاع الوقت؟ لماذا كنت أكتب ثلاث مقالات عاجلة بدل واحدة مليئة، فيها تأمل وفيها فكر وفيها هدوء وروية؟ لماذا كنت أعمل في ثلاث صحف ومجلات ناجحة بدل واحدة، ثم أوزع رواتبي على مطاعم المدينة ومقاهي الجبل والباقي هدايا على الذين لا يمكن أن يتمنوا لي خيرا.

اقرأ في السِير وأغبط الأحياء وأترحم على كبار الغياب. أغبط الذين جعلوا وقتهم عملا وفرحا ونجاحا. أنا غرقت في الفوضى، وضعت في متاهة الميلانخوليا. ولا أزال. أنا مررت إلى جانب الوقت ولم أمر فيه. عاملني الوقت كما عاملته، عابرا في طريق، ضائعا في تقاطع.

أقرأ في السِير وأرى أن شرط النجاح هو الشجاعة. وأنا خجول وجبان. وكنت أعتقد أن الناس تقدر فيّ الحياء فإذا بزميل عربي راحل يحول هذه «العقدة» النفسية إلى تقرير وزعه على جميع الجهات المشتركة في خدماته. ولم يصدمني أن أعرف أنه كتب، ولا فاجأني ما كتب. الذي فجعني أن أناسا كنت أراهن على عقولهم ونواياهم ومعارفهم وضمائرهم، جاءوا يسألونني لماذا «أنا» كما وصفني صاحب التقرير!

أعتقد، بلا أي تواضع أو أدب، أن لا أحد يقرأ مقدار ما أقرأ، في الليل وفي النهار وفي الفجر وفي السفر وفي الطفر وفي الضوء وفي القمم، ومع ذلك أراد متخصص في شتمي أن يقول شيئا إضافيا، فكتبت في مشتمته أنه ليس صحيحا أنني أقرأ ما يقال بأنني أقرأ.

كانت المرة الوحيدة، الأولى والأخيرة، التي آلمتني فيها شتيمة من محترف سب وعق وكره وغرور. ويومها علق النقيب محمد البعلبكي «إذا كان فعلا لا يقرأ وهو هكذا، فكيف إذا قرأ». وتألمت أكثر بعد ذلك لأنني تألمت. ولأنني توقفت. وفي داخلي سئمت من ضعفي ومن حياتي وخجلي وشعوري بأنني لست أحدا ولم أفعل شيئا. ولا يخامرني شعور، ولو كاذب، بأنني أنجزت شيئا ما في هذه الرحلة، إلا عندما يهرع كتَّاب الافتراء، بلا سبب أو مناسبة أو مبرر، إلى شتمي، وتحويل الكرامة إلى جبن، والأدب إلى خوف، والترفع إلى فزع. ولعل الإنجاز الوحيد أنني لم أصبح منهم ولم يُغرني مواجهة الافتراس بالتوحش. اللهم أبقِ عليّ نعمك ورحمتك، وأعنّي على تقليد الأوادم وذوي التواضع، وأبعد عني بسطاءك الذين ليس فيهم إلا الفجور.