في عيونهم أو في المرآة

TT

في لقاء مع نخبة من الإعلاميات الفلبينيات في مانيلا الأسبوع الماضي من رئيسات تحرير إلى كاتبات افتتاحيات ومقدمات برامج في برامج تلفزيونية رئيسية، بدأت أكتشف من خلال الأسئلة الموجهة لي حول العالم العربي والصراع العربي ـ الإسرائيلي والوضع في فلسطين والعراق وإيران، أن هؤلاء ينطلقن في كل أسئلتهن من المعلومات التي يقدمها لهن الإعلام الغربي حول هذه المسائل، وكنت أرى الدهشة على وجوههن وأنا أحاول أن أعيد السؤال إليهن من مرجعية عربية أو من رؤية واقعية للأحداث كما هي على الأرض وكما تعايشها شعوب هذه البلدان. إذ لم يمض وقت طويل على بداية اللقاء حتى اكتشفت أن هؤلاء الإعلاميات اللواتي لا يمكن وصفهن بأنهن معاديات للحق العربي، لا يعرفن شيئا عن وجهة النظر العربية في أي قضية من القضايا الواردة إليهن من وكالات الإعلام الغربية والتي تعتمد في معظم أخبارها عن منطقتنا على الرواية الإسرائيلية والمصطلح الإسرائيلي والرؤية الإسرائيلية للأمور.

فقد كان السؤال الأول الذي وجهته إلي إحداهن: كيف تقارنين وضع المرأة العربية بما وصلت إليه المرأة الغربية من حقوق واستقلالية وتحرير؟ كما سئلت عما إذا كانت جميع النساء العربيات يلبسن العباءة إلى حد الآن، وعن نسبة الرجال الذين يتزوجون بأكثر من زوجة! وحين سألتني محررة سياسية مشهورة عن الموقف من أنشطة إيران النووية وعن رأيي بالمشاكل التي يواجهها الغرب مع إيران، سألتها بدوري عما إذا كانت تعلم أن إيران موقعة على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية الأمر الذي يسمح لها بامتلاك المعرفة والطاقة النووية السلمية، بينما «إسرائيل» غير موقعة على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وهو سرٌ مفتوح بأن «إسرائيل» تمتلك أكثر من مائتي رأس نووية وهي التي تحتل أراضي عربية بالقوة وتقتل الفلسطينيين وتحاصرهم وتُهجرهم من قراهم ومدنهم كل يوم وتبني مستوطنات على أنقاض منازلهم وتاريخهم وحضارتهم. لم يكن هناك أي سؤال عن حصار غزة والذي أصبح سياسة إبادة شاملة في القرن الواحد والعشرين والذي يقر حقوقيون في جنوب أفريقيا أنه أسوأ من نظام الأبارتيد (التمييز العنصري) الذي كان سائدا في جنوب أفريقيا في القرن العشرين، كما لم يكن هناك أي سؤال عن تقرير غولدستون وآلاف الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة ولا أي سؤال عن السجون الإسرائيلية السرية والتي زجت إسرائيل بثلاثة آلاف طفل فلسطيني فيها منذ عام 2000 والتي تحدث فيها جرائم خطيرة جدا بحق الأسرى الفلسطينيين في ظل صمت دولي حيث لا يسمح للمحامين ولا للصليب الأحمر بمعرفة حتى مكان هذه السجون وحيث يستخدم جنود الاحتلال الإسرائيلي أبشع أساليب التعذيب مع المعتقلين بما فيها الاعتداء الجسدي والاغتصاب والتهديد، كما لم يكن هناك أي سؤال عن هدم إسرائيل اليومي لمنازل الفلسطينيين وبناء مستوطنات على أنقاضها وتحويل الفلسطينيين إلى لاجئين على أرضهم وخارجها، كما لم يكن هناك أي سؤال عن آثار الاحتلال الأميركي للعراق والذي خلّف أكثر من مليون أرملة ومليون قتيل وأكثر من مليوني يتيم.

وفي الوقت الذي عمدتُ إلى الإجابة على الأسئلة بمعلومات عن الواقع توضح الحق العربي والجرائم التي ترتكبها إسرائيل منذ عام 1948 بحق العرب نتيجة استراتيجية استيطانية صهيونية واستهداف المثقفين والعلماء في العراق والكوارث التي حلت نتيجة احتلال ظالم، فقد اعترفت للإعلاميات أنني لا ألومهن على غياب الحقائق في أسئلتهن لأن الإعلام الغربي هو همزة الوصل بين الشرق والغرب وهو الجسر الوحيد العابر للبلدان والقارات والذي تستخدمه جميع الشعوب ليس فقط للتعرف على الغرب بأعينه بل هو للتعرف أيضا على الأصدقاء والجيران والأشقاء وعلى أحداث العالم كلها في الشرق أو الغرب وتساءلت ما الذي نعرفه جميعا عن أفغانستان مثلا وما يدور بها وبباكستان إلا من خلال ما يوصله لنا الإعلام الغربي وماذا يعرف العرب عن الصين والهند وروسيا وماذا تعرف هذه البلدان عن العرب إلا من خلال ما يقرأه جميع الأطراف من إعلام غربي. وبلحظة حوار حقيقي اتفقنا جميعا أن هذا الأمر هو أخطر ما في الواقع الدولي في العصر الحديث وأنّ تغيير هذا الواقع يجب أن يكون ضمن أولويات الدول في الشرق والجنوب. ونعود مرة أخرى إلى الحاجة الماسة والضرورية لاختراق عربي إعلامي على الساحة الدولية اقتداء بما فعله المناضلون في جنوب أفريقيا من أجل حريتهم حين كان التواصل بينهم وبين الهيئات الدولية ومنظمات الشباب والعمال في العالم والأحزاب التقدمية في كل مكان طريقا لخلاصهم من نظام تمييز عنصري بغيض.

ولم يقتصر أثر هذا الخلل الإعلامي على القضايا العربية فقط، بل شعرت أنه ذو تأثير بالغ على معرفتنا بالعالم وحضاراته وتقييمنا لما يجري في هذا العالم رغم أن التواصل الحقيقي بين بلدان العالم بعيدا عن القناة التي صممها لنا الغرب والتي تؤكد على مركزيته وتفوقه على معظم شعوب الأرض هو أمر في غاية الأهمية اليوم. إذ هل يعقل على سبيل المثال لا الحصر أن تكون كتب الطلاق والإرهاب والصيرفة الأكثر رواجا في معرض الكتاب الإسلامي الدولي في دلهي مؤخرا غربية؟ وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن معظم هذه الكتب قد كتبت إما في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة نستنتج خطورة إعادة إنتاج التقييم الغربي للإسلام والصورة الغريبة عن الإسلام حتى للمسلمين أنفسهم كي يروا أنفسهم ودينهم وثقافتهم بمرآة غربية. أو هل يُعقل أن ترتدي الدمية باربي البرقع والشادور في مرور خمسين عاما على إطلاقها في مزاد خيري في فلورنسا بإيطاليا وكان منطق هذا العرض أنه من الضروري أن تشعر الفتيات في أنحاء العالم بالحرية في التعبير عن صورتهن الحقيقية. وحقيقة الأمر هي تكريس صورة البرقع والشادور كصورة وحيدة للمرأة المسلمة واختزالها بمظهر يعتبره الغرب دليلا على الإجحاف اللاحق بحق المرأة في العالم الإسلامي وعدم قدرتها على أن تكون إنسانة فاعلة ومحترمة في مجتمعها.

وفي معرض النقاش الثقافي والجهل الذي تعاني منه شعوب العالم بحضاراتها وحقيقة الأحداث الدائرة على أراضيها، أفاد مختصون في الفلبين أن الاستعمار الإسباني الذي دام أكثر من ثلاثمائة عام في الفلبين لم يترك أثرا ثقافيا واضحا يضمن تبعية الفلبين للثقافة الإسبانية بينما ترك الاستعمار الأميركي للفلبين والذي استمر فقط خمسين عاما تبعية ثقافية وتعليمية ومؤسساتية ليس من السهل التخلص أو التحرر منها. ويمكن القول هنا إن الاستعمار الجديد في القرن الواحد والعشرين هو استعمار ثقافي وغربي وأن العرب الذين قدموا للعالم فيما مضى أهم الاكتشافات في مجالات العلوم المختلفة هم أهم ضحايا هذا الاستعمار. فاللغة العربية اليوم تعاني من إهمال غير مسبوق كما أن إنتاج الفكر المحلي المعبّر عن الواقع العربي والقضايا العربية بأسلوب جذاب هو في أدنى مستوياته في الأقطار العربية رغم تفاوت بسيط بين قطر وآخر.

وعلّ التجمعات الإقليمية التي يشهدها العالم اليوم تمثل أحد الردود الناجعة للمركزية الغربية وسوف يمثل التواصل بين هذه التجمعات في المستقبل الخرق الحقيقي للمركزية الغربية واستبدالها على الأقل بعالم متعدد الأقطاب تستعيد فيه شعوب الأرض مكانتها وإحساسها بأهميتها ومساهمتها في تقدم وازدهار البشرية. فها هي منظمة «آسيان» تلغي سمات الدخول بين دولها وتفتح تجارة حرة وحركة اقتصادية وثقافية وسياسية نشطة بين بلدانها. وها هي دول أميركا اللاتينية تشكل عالما ثقافيا واقتصاديا وسياسيا مناهضا بالعمق للهيمنة الأميركية التي كانت تعتبر دول أميركا الجنوبية الحديقة الخلفية للولايات المتحدة. وها هي معظم دول العالم تستيقظ من انبهارها باللغة الإنجليزية وتعيد الاعتبار للغاتها المحلية في التعليم والإنتاج الثقافي والمعرفي. وها هو رئيس البرازيل لويس ايناسيو لولا دا سيلفا يستقبل الرئيس الإيراني رغم الحنق الغربي من هذه الخطوة في تعبير واضح عن الثقة بالذات واستقلالية في الرأي عن الهيمنة الغربية. والسؤال هو متى سيرى العرب أن خلاصهم هو في صيانة لغتهم وإنتاج العلم والمعرفة بهذه اللغة ومتى يرون أن تشكيل كتلة إقليمية يشكل العرب أحد أهم أقطابها هو الخلاص الوحيد للمستقبل العربي ولولوج النظام العالمي الجديد الذي تشهد به دول آسيا وأميركا الجنوبية استقلالا حقيقيا في الفكر والعلم والسياسة والاقتصاد. لا شك أن الاستقلال الحقيقي يكمن في التخلي عن المرآة الغربية التي نرى بها أنفسنا والتواصل مع الآخرين الذين يشاطروننا الهدف ذاته لإنتاج مستقبل تزدهر به كل مكونات الحضارة الإنسانية بعيدا عن المركزية الغربية التي قامت على إبادة الشعوب الأصلية والاستيطان في مكانها والتفوق الغربي على جميع البشر ونهب ثروات الأرض لتصب في بلدانهم وتدخل الكثير من شعوب العالم في دائرة الفقر واللافاعلية.

إن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، والخطوة الأولى تكمن في كسر هذه المرآة والتحديق بدلا منها في لون تربة أوطاننا ووجوه أبنائنا والإنتاج بلغتنا والثقة بفكرنا وقضايانا وأهليتنا أن نكون مساهمين حقيقيين في ازدهار الإنسان وصون حريته وكرامته.