معركة القلوب والعقول.. مرة أخرى

TT

منذ أسابيع كتبت في هذا المكان حول «معركة القلوب والعقول» باعتبارها المعركة الجوهرية في الحروب والمواجهات التي جرت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 والتي تعددت مواقعها ومسارحها. فما جرى خلال العقود القليلة الماضية في العالمين العربي والإسلامي من عنف ومواجهات وحروب، دار جزء غير قليل منه حول فهم الدين الإسلامي، والعلاقة بين الدين والدولة، والدولة والمجتمع، والفرد المسلم ومجتمعه ودولته وأمته أيضا. ولكن يبدو أن المسألة الآن أكثر تعقيدا وتركيبا مما بدت أثناء كتابة المقال المشار إليه في السابق، حيث تمتد أيضا إلى عقول وقلوب ما يمكن تسميته بالنخبة، أي تلك الجماعة من المجتمع التي تؤثر في الشؤون والسياسات العامة باعتبارها مسؤولة عن تشكيل الأفكار والتوجهات.

والسبب في طرح الأمر على هذا النحو، هو أنه في الوقت الذي تجري فيه المعركة مع التيارات المتطرفة المؤيدة من تيار متطرف آخر في إيران، فإن هناك من الأحداث والأزمات التي تخترق الساحة الفكرية لكي تفرض نفسها على قائمة الأعمال العربية، وتفقد هذه النخبة تركيزها، وتجعلها تكتشف أن عليها في الحقيقة ليس فقط كسب القلوب والعقول في معركة التطرف والاعتدال، وإنما، من جانب آخر، عليها أن تقدم بديلا واضحا. والمثال هنا هو أرض اليمن التي تشهد الآن معركة ساخنة لها أبعادها المتعددة، ولكن فيها كل ما يشكل تهديدا للأمن والاستقرار في المنطقة من أول تحول دولة عربية إلى دولة فاشلة بكل ما يعنيه ذلك من حرب أهلية وتفكك، وساحات وجبال لصناعة الإرهاب، وباختصار الجمع ما بين الصومال وأفغانستان في بوتقة واحدة. وكأن ذلك كله ليس كافيا، فقد تركت الحالة اليمنية آثارها العنيفة على الحدود اليمنية السعودية، وظهر من جراء العمليات العسكرية التي جرت حتى الآن أن خطوط وشبكات المعركة ملتفة بطول جنوب البحر الأحمر ثم المحيط الهندي حتى تصل إلى موانئ وجزر الساحل الإيراني على الخليج. ومن الجائز بالطبع أن الحسم السعودي قد يترك آثاره على الحوثيين ومؤيديهم معا، ولكن الجائز أيضا أن يكون للتهور وغياب الحكمة آثارهما أيضا؛ وليس مصادفة أن الرئيس المصري حسني مبارك قد حذر إيران لأول مرة صراحة من تمدد استراتيجي لا توجد فيه لا مصلحة للعرب أو إيران أو المسلمين عامة.

المدهش هنا أنه في الوقت الذي تجري فيه هذه المعركة، ينشغل الجمع العربي بالأزمة المصرية ـ الجزائرية حول مباراة في كرة القدم، ما لبثت أن أصبحت جزءا من الكرامة والشرف الوطني لدى نخبة واسعة في البلدين. وفي الأسبوع الماضي حاولت تقديم تحليل للأزمة وبطريقة متوازنة ودقيقة من حيث تركيب الجمل والفقرات لتوضيح وجهتي النظر المصرية والجزائرية، ومع ذلك فإن عددا من المعلقين الجزائريين وجدوا فيها انحيازا كاملا للجانب المصري. النقد هنا مطلوب ومشكور أيضا، ولكن الدلالة هي أن القلوب والعقول قد زاغت إلى حد كبير بعيدا عن معارك أصلية وساخنة وفيها تهديد شديد ليس فقط لكل من مصر والجزائر بل أيضا لكل الدول العربية والإسلامية. والمعنى هنا أن القلوب والعقول لم تعد تعرف أولوياتها، وربما اكتشفت أن الحل «الإسلاموي» لا يقدم الكثير لأمن الأمة ورخائها وازدهارها وقوتها وقدراتها، ولكن على الجانب الآخر، فإنه لا يوجد الكثير من الوعد والإمكانية حول تحولات جوهرية في الدول العربية تدفعها على الطريق الذي سارت فيه دول مثل الصين أو الهند أو البرازيل أو كوريا الجنوبية أو أي من الروافع الكبرى لاقتصاد وتقدم عالم اليوم.

فالشواهد التي كانت تقول إن التيارات والحركات الإسلامية تقدم بدائل سياسية في بلاد عديدة منها مصر والكويت والبحرين والمغرب واليمن والأردن وفلسطين، لم يعد هناك ما يؤيدها. وفي المقدمة من الشواهد توجد التيارات الإسلامية المتشددة والسلفية في الكويت، والتي كانت عنصرا فاعلا في الأزمات المتلاحقة التي شهدتها الساحة الكويتية سواء لخلافها مع نظام الحكم أو توجهاتها المضادة ـ في بعض الأحيان ـ لتيارات المجتمع. فقد شهدت الكويت خلال السنوات الماضية، أزمات بين الحكومة ومجلس الأمة، والتي تنتهي إما باستقالة الحكومة أو بحل المجلس، بحيث تراجع متوسط عمر الحكومات من عامين إلى ستة أشهر، وتراجع متوسط مدة مجلس الأمة من 4 أعوام إلى أقل من عام، وما أن يعودا للالتقاء مرة أخرى حتى يبدأ فصل جديد من الصراع بينهما، رغم التغيير الذي يطال تشكيلة الحكومة أو عضوية المجلس، الأمر الذي يفرغ التجربة الديمقراطية من مضمونها.

على جانب آخر، فإن هناك موجة من العداء لحرية الرأي والتعبير، عبر التصورات التي يطرحها بعض الأعضاء الذين ينتمون للتيارات السلفية أو الإسلامية المتشددة، بحيث بدأت البلاد تعرف مصادرة الكتب والوصاية على الأفكار وتقييد حرية الإبداع والعداء للفن والثقافة من خلال منع تدريس الموسيقى وإلغاء حفلات الغناء والدعوة لإغلاق الملاهي والفنادق، بل ومحاصرة بعض النائبات والوزيرات في مجلس الأمة، وبات الأمر كما لو كان «طالبانية» كويتية جديدة.

وفي الحالة الأردنية، تراجع نفوذ حزب جبهة العمل الإسلامي الذي يمثل الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين بعد تقلص مقاعده في الانتخابات التشريعية التي أجريت في عام 2007 من 17 مقعدا إلى ستة مقاعد من إجمالي 110، وربما يكون ذلك قد مهد لتصعيد الخلاف بين ما يعرف بـ«الصقور» و«الحمائم» حول عملية الفصل الإداري والمالي بين التنظيم الأردني ونظيره الفلسطيني الذي تمثله حركة حماس. وبدون الدخول في كثير من التفاصيل فإن حركات الإخوان باتت عاجزة عن التمييز بين ما هو «وطني» وما هو «قومي» أو حتى «أممي»، وبالتأكيد فإن أيديولوجيتها لم تكن تساعدها على الفصل، ولكن مهارة الحركة في مواجهة التناقضات ظهرت وكأنها في تراجع شديد.

وفي الحالة المصرية، فشلت جماعة الإخوان المسلمين في التأثير على الأجندة التشريعية لمجلس الشعب المصري، رغم تواجدها تحت قبته منذ أربع سنوات، وما زال الارتباك يحكم توجهها فيما يتعلق بحسم إشكالية العلاقة بين الدين والدولة في مصر، والبناء المؤسسي للحركة وقدرتها على تكوين حزب مدني، والخلط بين ما هو دعوي وأخلاقي وما هو سياسي يستهدف الوصول إلى السلطة. ولم يقتصر الوضع على الحالات السابقة، حيث برز في الحالة العراقية، أثناء الانتخابات المحلية والبلدية. فقد أطاح الناخبون العراقيون بالقوى السياسية الإسلامية، سواء الشيعية أو السنية، وتقدمت القوى الوطنية. ولم ينجح حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي في المغرب من حصاد المركز الأول الذي بدا وكأنه مهيأ له.

إن أحد التفسيرات المطروحة الأخرى لتراجع التيارات الإسلامية تحت قبة البرلمانات العربية، هي عدم قدرتها على ترجمة البرامج والسياسات التي تطرحها إلى سياسات عملية مرتبطة بما يحدث على أرض الواقع، وتكون النتيجة رسوبها في امتحان ما يسمى بـ«شرعية الإنجاز». ومن هنا، فإن الهوية الإسلامية للتيارات السياسية لا توفر حصانة مطلقة من المحاسبة الشعبية، بل إنه من الثابت أن واحدا من أسباب تراجع جماعة الإخوان في مصر يعود إلى النقاش والحوار الذي جرى حول ما عرف ببرنامج الحركة. ولكن ذلك بالتحديد هو الذي يشير إلى أنه من الناحية العملية لا يوجد لدى هذه الجماعات ما هو أكثر من أطر أخلاقية، تتصورها كافية لإخراج المجتمعات من مواقعها الحالية إلى مواقع أخرى أكثر تقدما في مواجهة أنفسها، ومواجهة العالم. وببساطة فإن تراجع «الحلم الديني» بعد «الحلم القومي» يعطي فرصة لحلم الدولة الوطنية الذي قامت عليه أحلام دول العالم الأخرى التي خرقت الحواجز والحجب، وإلا فإن الفراغ الفكري والمعنوي سوف يعطي الفرصة لقوى أخرى لكي تلعب في ساحة تخلط فيها المعنوي بالمذهبي والقبلي بمزيج من النار والدم. وربما تكون اليمن والسودان والصومال هي الأمثلة الآن، ولكنها لن تكون الأمثلة الوحيدة!