هل هذه خيانة عظمى؟!

TT

غالبا، وفي كل الحروب، يقتل الإنسان إنسانا آخر دون أن يعرفه، ولو أنه عرفه عن قرب وقت السلام فمن المحتمل أن يكون ذلك القتيل من أعز أصدقائه، والذي دعاني إلى مثل هذا القول هو ما قرأته من ذكريات يرويها أحدهم عن حادث أو موقف شارك فيه وهو في الثانية عشرة من عمره ويقول:

عندما دكّت القنابل التابعة للحلفاء بلدتنا «آخن» في ألمانيا عام 1944، أرسلَنا والدي أنا وأمي لنعيش في كوخ وسط الغابات، وبقي هو في الدفاع المدني لإطفاء الحرائق، وقال لي: «ستكونون هناك في مأمن، وتولَّ رعاية أمك فأنت الآن رجل العائلة».

وأتذكر في ليلة عيد الميلاد، إذا بنا نسمع طرقات على الباب، فأسرعت أمي بإطفاء الشموع ولم تجب، وعندما تكررت الطرقات اضطُرّت أن تفتح الباب، وإذا بثلاثة رجال مدججين بالسلاح يقفون كالأشباح وخلفهما الأشجار، وتحدث اثنان منهما مع أمي بلغة لم نفهمها، وهما يشيران إلى الثالث المصاب بجراح خطيرة، ووقفت أمي صامتة بلا حراك، وكان في وسع الرجلين المسلحين أن يشقا طريقهما بالقوة، ولكنهما لم يفعلا.

فقالت أمي: «أدخلاه»، وحمل الجنديان رفيقهما إلى الداخل وأرقداه على سريري.

ورغم أن أمي عرفت أنهم أميركان، فإنها انحنت على الجندي المصاب وأخذت تضمد جراحه، فيما أمرتني أن أحضر ست حبّات من البطاطس مع الديك الوحيد الذي كنا سوف نحتفل بأكله في تلك الليلة.

وفيما كانت منهمكة في الطبخ، إذا بنا نسمع عدة خبطات على الباب، وما إن فتحناه بعد طول تردد إذا بنا أمام أربعة من الجنود الألمان، وشل الخوف حركتي، ورغم أنني غلام صغير فقد كنت أعرف القانون القاسي الذي يعتبر إيواء جنود الأعداء خيانة عظمى، وأخذت أرتجف معتقدا أنهم سوف يقتلوننا لا محالة.

وقالوا لأمي: «لقد فقدنا كتيبتنا ونود أن ننتظر عندكم حتى مطلع الصباح».

فقالت لهم أمي برباطة جأش عجيبة: «عيد سعيد، بطبيعة الحال تستطيعون الدخول بدلا من وقوفكم في الخارج وسط الثلوج، وفوق ذلك سوف تتناولون وجبة طيبة دافئة، ولكن عليكم أن تعرفوا أن لدينا ثلاثة ضيوف عليكم أن تعتبروهم أصدقاء ما دمتم في هذا المكان».

وسألها قائدهم بحزم: «هل هم أميركان؟!»، فردّت عليه أمي بشجاعة وثقة قائلة لهم: «أصغوا إليّ، كان من الممكن أن تكونوا أنتم أولادي، وكذلك هم، وهناك فتى جريح ينازع الموت، وهم ضلوا الطريق مثلكم، وهم جوعى ومتعبون مثلكم تماما»، ثم صمتت قليلا وقالت: «كفانا حديثا، ضعوا أسلحتكم الآن فوق كومة الحطب هذه»، فأسرعوا بتنفيذ أمرها ووضعوها، وما إن شاهدهم الأميركان يفعلون ذلك حتى وضعوا أسلحتهم فوق كومة الحطب أيضا.

والتفّوا حول المائدة الخشبية المهلهلة بعضهم بجانب بعض، وقد ارتاحت ملامحهم، وهم يحاولون تبادل بعض كلمات المجاملة القليلة التي يفهمونها، فيما راحت أمي تحضّر المزيد من حبات البطاطس والشوفان وهي تقول: «إنني أعرف أن الرجل الجائع إنسان غضبان»، وأكلوا وغنوا جميعا أغنية الترحيب بالعام الجديد الذي سوف يحل بعد أيام، واستمرت هذه «الهدنة» حتى الصباح.

واستطاعت أمي مع الجنود أن يصنعوا محفّة للجندي الجريح الذي غطت جسده بلحافها الصوفي، وودّع الأميركان والألمان بعضهم بعضا، وعند ذلك أعادت أمي أسلحتهم إليهم قائلة: «احرصوا على أنفسكم أيها الفتيان، فإنني أرجو أن تعودوا قريبا سالمين لأمهاتكم وبيوتكم التي جئتم منها».

وأخذنا نراقبهم وهم يختفون في اتجاهين مختلفين.

[email protected]