لأول مرة: عبد الوهاب!

TT

يوم ولا أي يوم: الغداء مع عبد الوهاب وفي بيته؟! الموسيقار العظيم يدعوني إلى الغداء على مائدته ومعه لكي أراه عن قرب وهو يأكل. وأنا معه؟! هذا كثير جدا أن يقع في يوم واحد!

أما الأستاذ عبد الوهاب فقصير القامة أصلع أبيض أحمر الوجه، كبير الأذنين والأنف. ويكرر أن نسبه يتصل بأهل البيت، فجده الأعلى هو الشيخ الشعراني صاحب الطريقة الصوفية. وهو طول الوقت يقول إنه ليس معك، فهو مشغول بشيء ما ولذلك يدندن. ثم نظارة غليظة. ضعيف النظر. وإن كان صديقه الأمير بدر بن عبد العزيز يقول إنه يتظاهر بأنه ضعيف وفى الحقيقة يرى الأشياء بوضوح. ولكن لماذا؟ يقول إنه يخاف من الحسد.

وجاء الطعام وبدأ الأستاذ يأكل. وقد أدخل دماغه في الطبق كأنه يريد أن يتأكد من شيء. ولكنه يفعل ذلك عادة. ويأكل الدجاج المسلوق بيديه. ولحسن حظ محبي عبد الوهاب أنهم لا يرونه وهو يأكل ويمضغ ويمصمص اللحم بصوت مسموع ويدندن في نفس الوقت. ولكنه يتابع ما يدور حوله من مناقشات ويتدخل ويقول ونحن نسمع ونرى. وله ضحكة كان عبد الحليم حافظ يقلدها.. وله طريقة في الكلام كأنه يغني. كلماته واضحة الحروف. وقد قلده الملحنون جميعا، فيما عدا الموسيقار كمال الطويل. فهو صاحب لهجة شعبية. وله ضحكة مزعجة لو سمعها هو لعدل عنها!

لم ألتفت إلى الطعام ولا أذكر ماذا أكلنا، فقد كنت مشغولا تماما بمراقبة عبد الوهاب. لم أجد فيه الرقة والشجن كما الذي في أغانيه..

وعبد الوهاب (صنايعي) يعني أنه فنان بالعقل، وليس بالقلب. يعني يصطنع الحب والشجن والعذاب والآهات وهو في كامل صحته وعافيته..

وعرفت منه فيما بعد أن الفنان يحب أن يحمي نفسه من متاعب المهنة. يعنى لا يوجع قلبه إذا غنى للحب ولا يبكي على الذي فات. حنجرته فقط هي التي تبكي. أما قلبه فسلامته أهم من أي شيء آخر. وأكثر الناس حبا لعبد الوهاب وحرصا على سلامته وثروته ومستقبله هو: محمد عبد الوهاب!

ومن المألوف أن يترك عبد الوهاب ضيوفه ويغيب عنهم لأسباب لا يذكرها ولا يعرفها أحد. كأن يكون قد خطر له أن يسجل لحنا جديدا أو يأخذ حماما ساخنا. أو أن ينام. وسوف يعتذر للناس عن كل هذه النزوات. أليس هو محمد عبد الوهاب؟ أليس هو أعظم موسيقار عربي؟ أليس هو الذي غنى «يا جارة الوادي» و«بلبل حيران» و«جبل التوباد»؟ أليس هو تلميذ أمير الشعراء شوقي وصديقه ومن رعاياه؟!