كان الأمر كذلك

TT

من أجل أن تنجح الروايات «البوليسية» التي كتبت في القرن الماضي، كان يجب أن يكون رجل التحري على كثير من الفروسية بل والأخلاق. وكان على اللص أن يكون ظريفا على الأقل، وكريما أحيانا وغالبا يتعاطف مع الفقراء. ومن أجل أن تنجح الرواية العادية، كان لا بد من العثور على نهاية سعيدة، وإلا على الأقل نهاية مليئة بالتضحية والافتداء: البطل يموت بعد البطلة أو يموت كلاهما تحت قطار مستعجل وقد أمسكا بيد بعضهما البعض. كل رواية كان «يجب» أن تنتهي باعتقال المجرم ومحاكمة السارق وتوبة الابن العاق وانتقام المرأة المغرر بها. وكان يجب ذرف الدموع وحضور الأفلام الباكية واستثارة غضب الجمهور وعطفه وتحريضه، دون شفقة، على أصحاب الأدوار الشريرة. كان العطف، أو المشاعر الأخلاقية، هو ما يحرك أفئدة الناس ويصنع الثروات للمنتجين وممثلي أدوار النخوة. وكانت الناس تنسى أنها في السينما فتصفق طويلا للممثلين الذين يسجلون موقفا أخلاقيا ما. وقد رفض جون واين طوال نصف قرن أن يلعب دور الشرير، وقبل في النهاية دورا واحدا «شوه فيه سمعته وماضيه». «البطل» في أفلام اليوم هو الذي يرش رجال الشرطة كالذباب ويرمي النساء من أعالي الأمباير ستايت ويضع بين كل كلمة وكلمة شتيمة من النوع المقرف. ولم تعد السينما تستعين بكتاب حوار بل بسوقة وتعابير أزقة. ولم يعد مهما أن تكون المشاهد لوحات مرسومة والموسيقى سيمفونيات والتفاصيل بديعة في دقتها. لم تعد هناك علاقة حميمة أخلاقية بين المشاهد والمنتج. كلاهما يشد بالآخر بعيدا عن موانئ النفس الهادئة. عندما أخفى آرثر كونان دويل بطله شرلوك هولمز، وظن القراء أنه مات، صار يرى أهل لندن يضعون شارات الحداد السوداء على قبعاتهم. لقد فقدوا سندا في حياتهم الآمنة. ولذلك سارع إلى «إحياء» هولمز من جديد. وكان أول من فرح بعودته والدة دويل التي حذرته من تكرار تلك المزحة الثقيلة: «لقد أفقدتني الشعور بالأمن يا آرثر. هل تقبل على نفسك أن يقال إنك قتلت شرلوك الذكي، الطيب؟».