حقيقة الـ«تسونامي» الناعم الذي جرف برلمان الأردن!

TT

أثار حل البرلمان الأردني، رغم أنه لم يكمل إلا نصف فترته الزمنية الدستورية، الكثير من التكهنات، وحقيقةً هذه الخطوة التي أقدم عليها العاهل الأردني عبد الله الثاني بن الحسين، وهي خطوة كانت بالنسبة للأردنيين متوقعة ولم تكن مفاجئة، قد استقبلت باستفسارات وتساؤلات كثيرة من قبل العديد من الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي كان قد صدر عن خارجيتها وكالعادة تقريرٌ تضمن بالنسبة للأردن بعض الملاحظات غير الدقيقة وغير الصحيحة وبخاصة لجهة حقوق الإنسان والحياة الديمقراطية.

وبداية لا بد من الإشارة إلى أن الأردنيين بغالبيتهم قد استقبلوا هذه الخطوة، التي جاء توقيتها مع أول أيام عطلة عيد الأضحى المبارك، بالمزيد من الارتياح، حيث إن تجربة عامين من عمر هذا البرلمان كانت بالنسبة للكثيرين مخيبة للآمال فالأداء إن رقابيا وإنْ تشريعيا لم يكن بالمستوى الذي يتطلبه النمو المتسارع في هذا البلد الذي شهد قفزات هامة جدا في هذا المجال خلال الأعوام العشرة الأخيرة.

لا شك في أن هذا المجلس، وهو الخامس عشر بالنسبة للمسيرة النيابية الأردنية، الذي يتكون من «110» أعضاء يضم كفاءات سياسية وتشريعية مميزة، حتى على المستوى الإقليمي، لكن المشكلة تكمن في أن غالبية أعضائه كانوا يشكلون عبئا وحمولة زائدة عليه وأن ما جعل تجربة عامين من عمره محبطة بالنسبة لغالبية الأردنيين أنه لم يستطع مواكبة التحولات السريعة التي تلاحقت وبروح وثَّابة بالفعل خلال عهد الملك عبد الله الثاني الذي تميز حقا بحكمة وحنكة الشيوخ وحيوية الشباب واندفاعهم.

فور اتخاذ هذه الخطوة، التي جاءت وهذه المنطقة تعيش كل هذه الظروف الاستثنائية، بادرت سفارات الدول الكبرى وعلى وجه الخصوص سفارتا بريطانيا والولايات المتحدة، إلى إعلان حالة الاستنفار وإجراء اتصالات حثيثة بمنظمات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات ومراكز الدراسات والبحوث لمعرفة أبعاد ما جرى وللتأكد مما إذا كان له علاقة بالحالة الفلسطينية المستجدة بعد تردي عملية السلام في الشرق الأوسط حتى حدود الانهيار وإذا كانت له صلة بالاستحقاقات الاستراتيجية الخطيرة التي تواجهها هذه المنطقة في ضوء تنامي بؤر التطرف وتصاعد المواجهة الساخنة بين إيران والدول الغربية.

وحقيقةً هذه التكهنات التي قيلت في هذا الشأن، والتي لا تزال تقال، لا علاقة لها بصورة مباشرة لا بمستجدات عملية السلام ولا بالتطورات المرعبة المتوقعة بالنسبة للشرق الأوسط كله، فالمسألة هي استحقاق أردني داخلي ربما يتقاطع مع هذه الأمور كلها في نقاط كثيرة إلا أنه يبقى شأنا أردنيا داخليا أملته الرغبة الملحَّة في أن يكون أداء «السلطة التشريعية» بمستوى مسيرة التغيير والإصلاح التي كان بدأها عبد الله الثاني بن الحسين فور تسلمه أمانة المسؤولية عام 1999 والتي حققت خلال الأعوام العشرة الماضية إنجازات كبيرة ومميزة وبخاصة في مجالي التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية.

وهنا فإنه لا بد من تأكيد أن هذه الخطوة التي أقدم عليها العاهل الأردني هي أولاَ خطوة ديمقراطية جرى ويجري مثلها في كل الدول العريقة في ديمقراطيتها مثل إيطاليا وفرنسا وبعض الدول الأوروبية، وثانيا هي خطوة دستورية جاءت مستندة إلى ما نص عليه الدستور الأردني الذي نصَّ على أن من حق الملك أن يحل البرلمان مع ضرورة إجراء انتخابات جديدة قبل مرور أربعة شهور على الحل إنْ لم تطرأ «ظروف قاهرة» تستدعي تمديد هذا الحل إلى أن تزول هذه الظروف القاهرة.

تجدر الإشارة إلى أن الملك عبد الله الثاني كان قد مارس هذا الحق الدستوري مرة واحدة منذ أن تسلم أمانة المسؤولية عام 1999، حيث جرى حل البرلمان عام 2001 في عهد حكومة المهندس علي أبو الراغب وكانت الظروف القاهرة في ذلك الحين التي استدعت تعطيل الحياة النيابية لمدة عامين هي تدهور الأوضاع في العراق وعلى ذلك النحو الذي انتهى باحتلاله وإسقاط نظامه السابق في أبريل (نيسان) عام 2003.

لقد طلب العاهل الأردني في رسالة وجهها إلى رئيس الوزراء المهندس نادر الذهبي ضرورة البدء بالإعداد للانتخابات الجديدة، وفقا لما نص عليه الدستور الذي نص على وجوب إجراء هذه الانتخابات في غضون الشهور الأربعة بعد حل البرلمان السابق هذا إنْ لم تطرأ ظروف قاهرة، لكن ما يجب أخذه بعين الاعتبار هو أن مثل هذه الظروف القاهرة قد تطرأ في أي لحظة فالمنطقة حبلى بالأحداث، فهناك، بالإضافة إلى الحالة الفلسطينية العالقة في عنق الزجاجة، احتمال أن تتطور الأمور على صعيد أزمة القدرات النووية الإيرانية بسرعة، وأن تبادر إسرائيل بدعم الولايات المتحدة وموافقة الدول الكبرى كلها ومن بينها روسيا والصين والاتحاد الأوروبي بالطبع إلى توجيه الضربة التي بقيت تلوح بها لتدمير منشآت إيران النووية.

ثم وهناك ظرف قاهر آخر وهو أن استكمال مشروع الأخذ بأسلوب اللامركزية الإدارية يقتضي أن تسبق انتخابات مجالس المحافظات، التي عددها 12 محافظة، انتخابات المجلس النيابي وهذا في الحقيقة يتطلب أكثر من فترة الشهور الأربعة المنصوص عليها في الدستور خاصة أن هذه اللامركزية تجربة جديدة وأنه لا بد من الإعداد لها الإعداد الجيد كي لا تواجه أي انتكاسة ستكون محبطة إن هي حدثت وهذا قد يستدعي الاستعانة بالنص الدستوري المتعلق بالظروف القاهرة المشار إليها.

إن هذا هو التصور العام لما جرى بالنسبة لحل البرلمان الأردني، أما بالنسبة لتفصيلات هذه الخطوة فإنه لا بد من الإشارة إلى الأمور التالية:

أولا: في ضوء تجربة العامين الماضيين ثبت أن هذه الحكومة أو أي حكومة بديلة لا يمكن أن تقوم بما هو مطلوب منها بالنسبة للقضايا الملحة والعاجلة الرئيسية إن هي لم تتخلص من رقابة هذا البرلمان الذي بسبب مزاجية الأكثرية من أعضائه تحول عمله إلى مجرد مناكفات واستهدافات شخصية للحكومة وأعضائها، جعلتها غير قادرة على القيام بما هو مطلوب منها أن تقوم به.

ثانيا: إن استحقاق اللامركزية الإدارية الذي تم إنجازه كمشروع أصبح قانونه جاهزا للإقرار ثم للتطبيق، قد استدعى اللجوء إلى هذه الخطوة وبهذه السرعة فبقاء هذا البرلمان لعامين قادمين قد يؤدي إلى فتور الحماس الحالي بالنسبة لهذه المركزية الإدارية التي تعتبر العمود الفقري لعملية الإصلاح التي بدأها الملك عبد الله الثاني منذ لحظة تسلمه أمانة المسؤولية والتي من المفترض أن تشهد انطلاقة جديدة في ضوء هذه التطورات الأخيرة.

إن هذه هي حقائق الأمور، لكن يبقى أنه لا بد من التوقف عند الحقيقة الرئيسية والأساسية والتي هي أن الملك عبد الله الثاني أراد أن يكون حل البرلمان بمثابة «التسونامي» السياسي الناعم لاستكمال سلسلة التغييرات الهادئة السابقة التي تمثلت في ضرب بعض مراكز النفوذ التي كانت تشكل عوائق أمام ممارسة الأطر الشرعية لأدوارها وحيث إن الحكومة هي أول هذه الأطر الدستورية.

لقد مرَّ كل شيء بهدوء، وحقيقةً ما جرى تنطبق عليه حالة النهر الذي يعتقد الناظر إليه أنه ثابت لا يتغير وذلك في حين أنه يتغير في كل لحظة، وهنا فإن ما لا يعرفه المراقبون من الخارج وعن بعد هو أن خطوة حل البرلمان هذه قد جاءت كـ«تسونامي» ناعم وهادئ بعد خطوة إنهاء التعارض الطارئ بالنسبة للتجربة الأردنية الذي وصل حدّ الصراع والتناقض بين رئيس الديوان الملكي السابق وبين مدير المخابرات السابق أيضا بإقالة الاثنين وإبعادهما عن أهم مركزين من مراكز النفوذ وصنع القـرار في المملكة الأردنية الهاشمية.

لم يعرف الأردن على مدى تاريخه الطويل ورغم التقلبات التي مرّ بها، على اعتبار أنه جزء من هذه المنطقة المضطربة، مثل هذه الصراعات التي عاشتها ولا تزال تعيشها دول عربية أخرى، وهذا ما جعل الملك عبد الله الثاني حاسما وحازما بالنسبة لإنهاء ظاهرة تصادم مراكز النفوذ وفي الوقت ذاته جعله يواصل إنجاز التغيير الذي أراده مواكبا لعملية الإصلاح المتواصلة بأسلوب الخطوة.. خطوة، وبطريقة ناعمة وسلسة وبعيدة عن صخب الانقلابات والصعقات السياسية وهي الطريقة الدستورية التي اتبعها في حل البرلمان والدعوة لانتخابات جديدة قد تجري في نهايات العام المقبل.