ممارسات الاستهداف في كوبنهاغن

TT

على ما يبدو، يوجه المتشككون في جدوى جهود التصدي للتغييرات المناخية سهامهم إلى اتجاه خاطئ، ذلك أن المشكلة الكبرى لا تكمن في التحليلات العلمية، وإنما في الحلول المطروحة ـ خاصة الأهداف التي أقرت فيما يتعلق بالانبعاثات الكربونية التي تعهد قادة العالم المستنيرون بتحقيقها. على هذا الصعيد تحديدا، لا تقودنا الأرقام إلى نتيجة صحيحة.

عندما تنعقد قمة كوبنهاغن لمناقشة التغييرات المناخية الأسبوع المقبل، ستحظى الدول الأوروبية التي قادت حملة مكافحة ارتفاع درجات حرارة الأرض بتقديم تقارير تفيد بأن القارة تمكنت من تحقيق الأهداف المرتبطة بالانبعاثات الكربونية التي سبق تحديدها في بروتوكول كيوتو الموقع عام 1997. وربما يصاب ممثلو الدول الأوروبية بالإنهاك جراء التهنئات الكثيرة التي ستنهال عليهم.

بيد أن أهداف بروتوكول كيوتو كانت على وشك التنفيذ بالفعل حتى من قبل أن تقر. يذكر أن هذه الأهداف تعتمد على مستويات انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون عام 1990 ـ بعد أن ظل الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية من أوروبا يلوثون الهواء لسنوات بسبب مصانعهم العتيقة التي تطلق كميات ضخمة من الانبعاثات الكربونية. وعندما انهارت الأنظمة الشيوعية واحدة تلو الأخرى، ومعها اقتصاداتها المتداعية، تراجعت الانبعاثات الكربونية من المنطقة التي كانت خاضعة للهيمنة السوفياتية بنسبة تقارب 40%. الآن، تعاود تلك الانبعاثات الارتفاع، إلا أنها لا تزال أقل من المستويات الواردة في معاهدة كيوتو الخاصة بعام 1990.

ويمكن القول إن هذا الانهيار الصناعي خلال حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي يرجع له الفضل في الجزء الأكبر من التقدم الذي أحرز على صعيد تقليص الانبعاثات الكربونية التي ستتمكن أوروبا الأسبوع المقبل من المباهاة بها. بيد أن ذلك لا يعني أن الأوروبيين لم يحققوا شيئا، فبعيدا عن انهيار الاتحاد السوفياتي، نجحت الدول الأوروبية في الإبقاء على مستويات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ثابتة نسبيا. في المقابل، ارتفعت الانبعاثات الكربونية من اليابان ـ التي لطالما تباهت باستضافتها محادثات كيوتو ـ بمقدار 9% منذ ذلك الحين.

بطبيعة الحال، لم تصادق الولايات المتحدة قط على معاهدة كيوتو. ومنذ عام 1997، تزايدت الانبعاثات الكربونية بنسبة 7%. في الصين، التي احتلت الآن المكانة الأولى عالميا كمصدر للغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، تضاعفت مستويات الانبعاثات الكربونية خلال الأعوام الـ12 الماضية. وبجانب القوى الاقتصادية سريعة النمو الأخرى مثل الهند والبرازيل، تجاوزت الصين أي حدود ربما رغب القائمون على معاهدة كيوتو في فرضها.

تبقى الحقيقة الأساسية أنه منذ إقرار معاهدة كيوتو منذ 12 عاما، ارتفعت الانبعاثات الكربونية بنسبة تقارب 30%. من جانبه، ينوي الرئيس أوباما الذي قرر المشاركة في قمة كوبنهاغن عرض تقليص الانبعاثات الكربونية الأميركية بنسبة 17% ـ اعتمادا على مستويات عام 2005 ـ وذلك بحلول عام 2020. وبغض النظر عما إذا كان هذا الهدف قابلا للتحقيق سياسيا أو تقنيا، تظل المشكلة الرئيسة في أن التغييرات المناخية تشكل ظاهرة عالمية. وعليه، فإن الإجراءات المحلية ربما تصبح غير ذات جدوى حقيقية.

من ناحيتها، أبدت الصين استعدادها عرض أول هدف لها على صعيد الانبعاثات الكربونية خلال قمة كوبنهاغن. وللوهلة الأولى، يبدو الهدف مبهرا: تخفيض «كثافتها الكربونية» بنسبة تتراوح بين 40% و45% بحلول عام 2020. لكن ينبغي الحذر بشأن هذه «الكثافة»، ذلك أنها تشير إلى الانبعاثات الكربونية قياسا إلى حجم الاقتصاد الصيني. ويعني ذلك أنه إذا ما نما الاقتصاد بمعدل 10% في عام ما وارتفع مستوى الانبعاثات الكربونبة بنسبة 9% «فقط»، فإن ذلك سيعد تقليصا في الانبعاثات. حال استمرار معدلات النمو على المستوى الراهن، فإن الانبعاثات الكربونية الصادرة عن الصين ربما تزيد بسهولة بنسبة 40% بحلول عام 2020 ـ ويبقى في مقدور القادة الصينيين حينذاك الادعاء بأنهم حققوا الهدف المطلوب منهم.

مما سبق يتضح أن القضية برمتها تنطوي على كثير من الأرقام والافتراضات والسيناريوهات. لكن حتى إذا أحرزت قمة كوبنهاغن نجاحا واسعا، سيستمر تركز الانبعاثات الكربونية المسببة لارتفاع درجات الحرارة. بيد أن ذلك لا يعني أن هذه الجهود برمتها لا طائل من ورائها، وإنما يعني أن كوبنهاغن لن تقدم أي حل قاطع لما يؤكد الكثير من العلماء أنه مشكلة ملحة.

كما تبقى الحقيقة أنه حتى إذا ما تحققت معجزة وتمكنّا من وقف جميع الانبعاثات الكربونية غدا، فإن مستويات ثاني أكسيد الكربون في طبقات الجو ـ والتي تعد الأعلى في مستوياتها عن أي وقت مضى على امتداد الـ800.000 عام الماضية، طبقا لما أكده الباحثون الذين عكفوا على دراسة عينات ثلجية من القطب الجنوبي ـ ستتطلب عقودا كثيرة كي ترجع إلى مستوياتها المعتادة تاريخيا. وإذا كانت درجات الحرارة على الأرض مرتفعة الآن جراء الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، فإنها في طريقها نحو مزيد من الارتفاع. وإذا ما اختفت جزر المالديف منخفضة المستوى تحت مياه المحيط الهادي بسبب ارتفاع مستوى ماء البحر، ستكون تلك كارثة كبرى. وإذا ما ازداد معدل وقوع الأحداق المناخية «المتطرفة» مثل الأعاصير الكبرى، فإن ذلك من شأنه زيادة احتمالات وقوع كوارث بالمدن الساحلية بمختلف أرجاء العالم.

لكن ماذا إذا طال أمد موسم الزراعة عند خطوط العرض الأعلى؟ وإذا ما تراجعت تكاليف الشحن والنقل بين قطبي الكرة بدرجة بالغة؟ وإذا باتت فصول الشتاء أقل حدة ـ وأكثر لطفا ـ في شيكاغو وموسكو وبكين؟ ربما نكون جميعا متورطين في هذا الأمر، لكن في النهاية سيكون هناك فائزون وخاسرون، وهذا يتعين على قمة كوبنهاغن مناقشته أيضا.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»