لبنان: الـ«بعبع» الشيعي

TT

قد يكون الرئيس نبيه بري سيئ النية حين طرح «إلغاء الطائفية السياسية». ربما أنه طائفي أكثر من الطائفيين جميعا. ولعل كلامه مجرد مناورة للتعمية على سلاح حزب الله والاحتجاجات الدائرة حوله أثناء مناقشة البيان الوزاري. وقد تكون القيادة السياسية الشيعية (أمل وحزب الله) جادة بالفعل ـ كما يقول آخرون ـ في رغبتها بإلغاء المحاصصة الطائفية، لغاية في نفس يعقوب، ولتصبح قادرة على ابتلاع باقي الطوائف. كل هذا جائز وممكن في السياسة اللبنانية اللعوب. لكن السؤال المطروح على رافضي إلغاء أو حتى تعديل نظام مخجل نخره السوس، ما هي بدائلهم؟ ما اقتراحاتهم؟ ما رؤيتهم لفرملة حروب غبية ـ لم ولن تتوقف ـ ابتلعت عشرات آلاف اللبنانيين منذ ما قبل الاستقلال إلى اليوم؟ هل يكفي أن يقولوا: «لا للتغيير. نحن خائفون من السلاح!» الخوف لا يطعم خبزا ولا يبني أوطانا. أتحفونا بحلولكم وديناميكيتكم. الـ«لا» العقيمة المجدبة ليست حلا.

ثمة أسئلة كثيرة قيد ضمائر السياسيين المتخوفين من الاستغناء عن نظام طائفي بكل غبائه وتخلفه. المسيحيون بكافة فئاتهم (موالاة ومعارضة)، مفهومة توجساتهم، ولا بد أن تؤخذ بجدية قصوى. فلبنان الذي ولد كدولة للمسيحيين بات مسيحيوه أقلية لا تتجاوز ثلث عدد السكان، والعدد مرشح للتناقص، بسبب شحّ في التوالد، وتأهب مستمر للهجرة. لكن النظام الطائفي لن يبقى ضمانة لهم مع تغير الديموغرافيا. المثالثة ستفرض نفسها حلا لا غنى عنه إن لم يكن غدا فبعد غد. سيتساءل المسلمون (شيعة وسنة أيضا) إلى متى سيبقى توظيف أي أحد منهم رهنا بالعثور على مسيحي يقابله في الدولة. سيثور الراغبون في العمل. إذ ما ذنبهم أن ولدوا من طائفة عددها أكبر من غيرها! وبأي حق تقدّم الطائفة على الكفاءة، وواسطة زعيم القبيلة على الشهادة والخبرة، مهما بلغ مقدارها؟ مخاوف المسيحيين وتمسكهم بـ«ستاتيكو» مريض لن يحميهم. البحث الدائب عن إعادة مهاجرين، لشغل هذا المنصب الشاغر أو ذاك، لن يضمن المناصفة في الحصص بين المسيحيين والمسلمين، لوقت طويل مقبل. منع انتخاب الشباب قبل سن الحادية والعشرين، لتأجيل بروز حقيقة أن المسلمين يتزايدون بسرعة على لوائح الشطب، لن يصمد بعد اليوم. فالشبان متحمسون للذهاب إلى صناديق الاقتراع، وهذا حقهم. اللجوء إلى قانون بائد وعصبوي يرجع إلى خمسين سنة خلت، لم يوفر للمسيحيين الموقع الذي كانوا يتمنونه في الانتخابات النيابية الأخيرة، وما يزالون يشتكون بأنهم انتخبوا تحت رحمة هذا الزعيم المسلم أو ذاك. الوقائع الأرضية تتكلم وتجعل حجج السياسيين باهتة وهزيلة، ومخاوفهم مردودة عليهم. لأن بقاء الحال من المحال، والإصرار عليه دون تعديلات، ولو طفيفة وبطيئة، سيجلب عواقب وخيمة.

«البعبع الشيعي» الذي يخشاه السنة اليوم، كان بعبعا مسيحيا منذ عشرين سنة، وغدا قد يصبح درزيا. مخاوف الطوائف اللبنانية من بعضها تعود إلى العهد العثماني، وستعمّر طويلا إن لم تستأصل من جذورها. تشكيل «هيئة عليا لإلغاء الطائفية السياسية»، إن تراضى عليها اللبنانيون، ستكون مجرد خطوة أولى في الاتجاه الصحيح، وسيتطلب عملها سنوات طويلة جدا، باعتراف الجميع. أي أن المتمسكين بالنظام الطائفي العفن، لن يحرموا منه في حياتهم، وربما كانوا بقبولهم النظر فيه، يحضّرون فقط لمستقبل أفضل لأولادهم. أن يكون حزب الله ذا صبغة دينية، ويطالب بإلغاء الطائفية السياسية، أمر يسجل له ولا يؤخذ عليه، حتى وإن كان ما يطالب به مجرد ادعاء. «اللحاق بالكذاب إلى باب الدار» حكمة قديمة. وبدل اتهام الزعامات الشيعية بأنها تقترح ما لن تقبل به، فلتوضع على المحك، ولتختبر في الميدان.

النظام القائم لا ينهض ويزدهر إلا على الشحن الطائفي، ولا يتغذى بغير الحقد والضغينة. القبول بالتغيير يعني دخول القيادات السياسية الحالية مغامرة قد تفقدها مواقعها أو تخلخل موازينها، ولو بعد حين. دفاع ملوك الطوائف عن نظام يؤمن مكانتهم من دون أي أخطار تحدق بهم لهو أمر مفهوم. لكن سكوت اللبنانيين، وخنوعهم لنظام يلتهمهم ويقدمون أنفسهم نعاجا على مذبحه دون اعتراض، لهو أمر مثير للرعب.

يقدم الرافضون لإلغاء الطائفية السياسية سيناريو «كابوسيا» في حال أي تغيير حصل. إذ إن إلغاء المحاصصة في رأيهم، سيدفع المسيحيين للهجرة، ويبقى لبنان بلدا يتقاتل فيه السنة والشيعة على ما تبقى من حصص. وعندها ربما يحق لأي مراقب أن يقول: فلتذهب كل الطوائف إلى الجحيم، إن كانت أصغر من أن تدرك معنى المواطنية، وأدنى من أن تستوعب قيمة الانضواء تحت كنف دولة ترى فيهم بشرا متساوين لا رعايا في مزرعة زعيم الطائفة. والمضحك المبكي في كل ما يحدث، أن إلغاء النظام الطائفي وتطبيق ما تبقى من اتفاق الطائف، هي اللازمة التي يتحفنا بها كل سياسي حين يعتلي منبرا، يريد منه أن يطل بهيا، عصريا ومتألقا. وقبل اقتراح نبيه بري الذي أثار الرعب وأيقظ عفاريت الشكوك بأيام وحتى ساعات، كان ثمة من بين المعترضين اليوم، من ينادي بضرورة الانتهاء من الطائفية وشرورها، ليكون الاستقلال ناجزا وحقيقيا. ولحظة جاء من يبشر بوضع طبخة الديمقراطية الحقيقية على النار، فزع العصريون وهرعوا إلى مخابئهم.

الاستغناء عن نظام عتيق ومتجذر ليس سهلا، ومجرد التفكير في زعزعته يحتاج تصورا لاحتمالات كثيرة ومعقدة. لذلك فإن الانقلاب الطوعي على النظام الحالي، يتطلب إجماعا وطنيا، وذكاء قياديا، مع حنكة ووضوح رؤيا. وبما أن الجماعات اللبنانية المتباغضة، لا ترى أبعد من أنفها، ولا تشتمّ في بعضها غير روائح الخديعة والمكر والوقيعة، فمبروك عليها طائفيتها لمائة سنة أخرى، وكان الله في عون المتناحرين.