رجل البيت

TT

ما نتج عن الأمطار الغزيرة التي سقطت على جدة، وما صاحبها بما يشبه الفيضان، وما تمخض عن ذلك، مأساة مروعة ذهب ضحيتها عشرات الأشخاص، غير الذي تهدم من منازل وما أتلف من سيارات.

ومن وحي تلك الكارثة إليكم حادثة واقعية أليمة قرأتها، وكان سببها عاصفة مطريّة عاتية.

إذ إن رجلا يمتلك مزرعة مساحتها 400 هكتار، فيها إلى جانب المزروعات 300 رأس من الماشية، اضطر إلى السفر لمدينة بعيدة لعدة أيام، وترك زوجته وابنه ذا العشرة أعوام، وقبل أن يركب سيارته للذهاب ربت على رأس ولده قائلا له: تذكر أنك رجل البيت في غيابي واعتن جيدا بأمك.

وبعد يومين أخذت الأم ابنها في الصباح الباكر لتوصله إلى مدرسته، وما أن تحركوا قليلا حتى هبت العاصفة ثم ازدادت وانهمرت شلالات المطر، وعرفت «هلن» ـ وهذا هو اسمها ـ أن استمرارها في السير يعتبر مخاطرة، فقررت الرجوع ثانية للمنزل: ولدى اقترابهما من الجدول الذي يمر في أسفل المزرعة، غرقت السيارة فجأة في الماء، وصرخت هلن: «إنه الطوفان»، ولم تستطع وقف السيارة أو الرجوع بها إلى الوراء، وكانت المياه ترتفع سريعا وهلن تحاول البقاء فوق ممر جانبي يفضي إلى جسر قريب يرتفع ثلاثة أمتار ونصف المتر فوق الجدول، وإذا تمكنت من بلوغ الجسر، فلا محالة في أنها ستنجو هي وابنها.. هذا، طبعا، إذا تمكنت!

وتذكرت أن ابنها لا يجيد السباحة، وقد سبق أن لقنته العوم في الحوض الذي تستقي منه الجياد، لكنه لم يحرز تقدما كبيرا في ذلك المضمار.

وصرخت: ساعدنا يا الله، غير أن السيارة توقفت كليا عن الحركة وبدأ الماء المتجلد يتدفق داخلها، واستطاعا بعد جهد جهيد أن يخرجا من زجاج النافذة، ووقفا فوق الجسر غير أن المياه أخذت تشتد وترتفع، وطوقت خصر ابنها بذراعها، واصطدما بالحافة العليا من سلك شائك، وغرز السلك في يدها مخترقا اللحم حتى العظم، واحتميا بعمود السياج، وقالت لابنها ابق متشبثا به ولف ذراعيك ورجليك حوله، وظلا على هذه الحالة المزرية إلى أن حل الليل، وشاهدا من بعيد أنوار سيارة غير أن من فيها لم يسمعوا صياحهما من شدة هدير المياه.

وقررت الأم أن تخاطر بنفسها علها تبلغ الضفة، فحذرت ولدها أن يتحرك من مكانه، ثم قذفت بنفسها وسط مجرى التيار الصاخب، غير أن الابن تذكر توصية أبيه لكي يحافظ على أمه، فما كان منه إلا أن يرمي بنفسه وراءها، واهتدى «رودي» ـ وهذا هو اسمه ـ بصوتها والتيار يسحبه، وما أحست الأم إلا بيد صغيرة قوية تلتف حول عنقها قائلا لها: لن أدعك تموتين، فالله سوف يحمينا نحن الاثنين. وأخيرا عند الساعة الثالثة والنصف فجرا انحسر التيار واستطاعا الوصول إلى المياه الضحلة وخرجا لليابسة وشاهدا كوخا قريبا وعندما وصلا إليه وجداه مهجورا ومغلقا، وكانت الأم قد وصل بها الإنهاك والنزيف الحاد إلى درجة الإغماء، واستطاع ابنها أن يجد كومة من «التبن» فرش بعضها وسدح أمه عليها ثم غطاها بالبقية ليجلب لها الدفء.

وتركها قاطعا عدة كيلومترات إلى أن وصل للطريق العام لطلب النجدة، التي وصلت وأخذت أمه للمستشفى وهي بين الحياة والموت، وقالوا لو أن الولد بقي مع أمه ولم يتصرف تصرفا صحيحا بتركها والذهاب لطلب النجدة لكانت قد فارقت الحياة.

وفي فبراير 1981، قلد الاتحاد الكشفي رودي بريان أرفع وسام للشجاعة، وهو الوسام الحادي والثلاثون الذي يقدمه الاتحاد خلال سبعين سنة من عمره.

كل هذا بسبب أنه يريد أن يثبت أنه «رجل البيت».

[email protected]