العودة إلى نيويورك

TT

تدخل نيويورك في ذاكرة أي إنسان حول العالم، من باب ما. من الأفلام والكتب وأحيانا من الحكايات الخاصة التي يرويها العائدون، غالبا مملحة ومبهرة أو سكر زيادة. وباكرا جدا تعرفت إليها من قراءة جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. وفي العشرين أدمنت قراءة مجلة «أسكواير» الشهيرة التي كان يمدها بالمقالات والمطالعات ذوو ألمع الأسماء على بلاطة الأدب الأميركي: دوس باسوس، نورمان ميلر، والمذهل جون أبدايك وجيمس بالدوين وسواهم. وكانت أكثر المادة حول نيويورك، أما أكثرها الآن في المجلة نفسها، فحول أحذية الرياضة ونصائح التخسيس، وأحيانا الخسة.

لم أجئ إلى المدينة إلا العام 1973، قاصدا الأمم المتحدة وجمعيتها العمومية، فإذا هو عام مجلس الأمن وحرب تشرين. وأصبحت الجبهة الحربية في الشرق والجبهة السياسية هنا في الغرب. حيث تتجمع دول الأرض على نحو مثير ومعقد ومضحك. فمعظم الدول الصغيرة، وما أغزرها، تأتي إلى هنا لإلقاء خطاب واحد على مدى السنين، تضاف إليه الأحداث الجديدة على نحو آلي. وعلى سبيل المثال فإن لبنان، وجزر القمر التي عادت إلى الأحداث هذه الأيام، حماها الله من الشهرة، وبيليز التي سفيرها الزميل بسام فريحه في نصف دول العالم، والصين، كلها تتحدث في لهجة واحدة عن حماية قيعان البحار من التلوث وسطوحها من الارتفاع، بسبب سخونة الأرض.

لكن هذه أيضا، وعلى نحو جدي إنساني ما، هي أهمية الأمم المتحدة وعلة وجودها. أي ديمقراطية النقاش في الجمعية العمومية، التي هي البرلمان الدولي، ومجلس الأمن الذي هو الحكومة الدولية. وقد أقيم هذا على غرار الحكومة اللبنانية التوافقية. (رجاء، لا تنسوا توافقية) أي مليئا بحقوق النقض للأقوياء وحق البصم لمن ليسوا كذلك.

الحمد لله. تصور لو أن العالم كله أقوياء. لذلك تعكس الأمم المتحدة عالمنا العجيب الذي دخل عصر السيارة الكهربائية وباشر عصر الطائرة الكهربائية واكتشف القمر واستطلع المريخ ولا يزال ثلث أبنائه تحت حزام الفقر، ولا تزال وزيرة الصحة في فنلندا تؤكد أن وباء الأيتش وان داء اخترعته أميركا كي تقتل به ثلثي البشرية. كيف يمكن حصر الأوبئة وإبعادها عن الأميركيين؟ ما هي أكثرية الثلثين التي تريد أميركا القضاء عليها؟ كان رئيس عربي قد قال في ما مضى من هذا الزمان، إن «الإيدز» اختراع أميركي يستهدف أفريقيا. المشكلة أن الإيدز لا ينتقل في الهواء مثل حمى وزيرة الصحة الفنلندية.