السعودية: (تصميم) ملك على مجابهة الإهمال والفساد

TT

كان القرار المبكر في كتابة هذا المقال: أن يكون عن (إعصار عات) يضرب العالم: إعصار من صنع البشر وهو (الفساد) ـ الإداري والمالي والسياسي ـ الذي عم وطم وتراكم حتى ليبدو وكأنه قد أمسى هو (القاعدة الأساس) في الحياة البشرية. فقد كان الفساد وراء الأزمة المالية العالمية.. ووراء تردي الأوضاع في أفغانستان (اشترط الأمريكان هذا الأسبوع تقديم عونهم بتطهير الحكومة الأفغانية من الفساد).. ووراء تآكل هيبة الحكم في باكستان.. ووراء بطء أو جمود حركة إعادة إعمار العراق.. ووراء مضاعفة التخلف والبؤس في كثير من بلدان العالم الثالث. فالفساد في هذه البلدان هو الذي يلتقم ويلتهم معظم مواردها وميزانياتها: المتهالكة أصلا. كنا قد عزمنا على كتابة هذا المقال عن ذلك الموضوع، بيد أنه عندما فجعتنا فاجعة جدة (المتمثلة في أمطار وسيول غزيرة، نشأ عنها موت وإصابة العشرات من البشر وخسائر مادية مروعة في المساكن والمساجد والمدارس والطرقات) الخ.. لما أصابتنا هذه المصيبة: توجب قطع البرنامج، أي تغيير الموضوع، والاستدارة به 180 درجة: من شأن العالم إلى شأن الذات.

ووراء ذلك مفهومان :

أولا: مفهوم ترتيب الأوليات. فما هو (وطني) مقدم – بلا ريب – على ما هو (عالمي): ((وأنذر عشيرتك الأقربين)).

ثانيا: مفهوم أن نقد الذات مقدم – بلا ريب أيضا – على نقد الآخرين وهو مفهوم مستنبط من الآية المحكمة في سورة المائدة: ((يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)).. فمن مضامين هذه الآية: افتحوا أعينكم على أنفسكم وتعهدوها بالإصلاح، وإماطة الفساد عنها فإنه إذا صح بناء الذات تراجعت أضرار المؤثرات الخارجية السلبية عليها. ومن الظواهر المشجعة على تكثيف نقد الذات (الاختفاء النسبي للاحتجاج بالقدر) في الحديث عن هذه المأساة: ليس كفرا بالقدر ـ طبعاـ، إذ الإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان الستة. ولكنه النزوع إلى التطهر والتحرر والتعافي من مرض تعليل تقصير البشر وانحرافهم وجرمهم وفسادهم بـ(القدر)، وهو تعليل يوشك أن يدرج أصحابه في فئة المشركين الذين كان منطقهم المعوج - وهو منطق نقضه القرآن نقضا تاما ـ على هذا النحو: ((وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون. قل أمر ربي بالقسط)).

والقرائن واضحة ومتعاضدة على أن ما وقع في جدة، إنما هو بسبب: التقصير الشديد.. والإهمال المتكرر المتراكم (إذا تكرر الإهمال وتراكم فإنه يرقى إلى مرتبة الخيانة المتعمدة): أخلاقيا وقانونيا ووطنيا.. وبالإجمال فإن السبب الرئيسي لما وقع هو (الفساد).. ومن هنا سارع الرجل الذي لا يطيق الفساد ولا يواطنه ولا يجامل فيه أحدا: سارع الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى الأمر بتكوين لجنة خاصة بهذه البلية الماحقة (للتحقيق وتقصي الحقائق في أسباب هذه الفاجعة وتحديد مسؤولية كل جهة حكومية أو أي شخص ذي علاقة بها)، كما جاء في البيان الملكي القاضي بتكوين هذه اللجنة: (محاسبة كل مقصر أو متهاون بكل حزم دون أن تأخذنا في ذلك لومة لائم تجاه من يثبت إخلاله بالأمانة والمسؤولية المنوطة به).. وقد يتطلب عمل اللجنة مدى زمنيا معينا، ولذا، فإن الملك قد استبق نتائج اللجنة بـ(عمل إنساني ناجز) تمثل في دفع مليون ريال لذوي كل غريق شهيد في لجج جدة وبركها ومستنقعاتها.. وهذا موقف يترجم مفهوم الملك للدولة، فالدولة ـ في مفهومه ـ مؤسسة (من أجل الإنسان)، وبناء على هذا المفهوم يجب تسخير إمكانات الدولة وطاقاتها في خدمة الإنسان وراحته وسعادته وإزالة الشقوة والمأساة والعذاب عن حياته: الفردية والعائلية.

ومهما يكن من شأن، فإن كارثة جدة مفعمة بدروس أخلاقية وثقافية وسياسية وأمنية ووطنية ينبغي اجتلاؤها واستيعابها وتمثلها:

1- درس تصحيح مفهوم (الخصوصية السعودية)، فلئن كان السعوديون يتفردون بخصوصية خدمة الحرمين الشريفين إذ هي خصوصية لا تتكرر لغيرهم من حيث أنه لا يوجد في أي بلد آخر: بيت الله الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لئن تفرد السعوديون بهذه الخصوصية، فإنهم في غير ذلك بشر من البشر: يسري فيهم ما يسري في سائر بني آدم من الاستقامة والانحراف والفساد.. فمنهم التقاة، ومنهم الفجرة.. منهم المخلصون الأمناء، ومنهم الخبثاء الخونة.. ومنهم الصادقون، ومنهم الكذبة.. ومنهم الجادون الصالحون في النهوض بالمسؤوليات والخدمات العامة، ومنهم العابثون الفاسدون الذين يصيبون المرافق العامة بالهزال لكي يسمنوا هم وحدهم !!.

وما جرى في جدة دليل موضوعي حاسم على وجود هذا النوع من الفاسدين المفسدين (السعوديين) ـ لا الأجانب ـ !! في المرافق العامة.

2- درس أن (الطبقة الفاسدة العازلة) هي أصل البلاء في البلاد.. ونقصد بها الطبقة التي تعزل جهد الدولة وإنفاقها وإمكاناتها عن نبض الشعب. فالميزانيات العامة الضخمة تتابع عاما بعد عام، لكن المواطن لا يشعر بها ولا يلمسها كما ينبغي اللمس والتمتع.. لماذا؟.. لأن هذه الأموال الهائلة عزلت فاعليتها وأثرها عن حياة الناس: عزلت بسلوك (الطبقة العازلة) التي تفسد في الأرض ولا تصلح.. إن الشأن الطبيعي أن تكون (موصلا جيدا): يوصل ما تنفقه الدولة إلى مستحقيه من الناس، ولكنها بدلا من ذلك أصبحت (عازلا) بين القلب، أي (الدولة) وبين الشرايين، أي (الشعب).. لا شك أنه توجد موصّلات جيدة ورائعة، وإلا انهارت الدولة، ولكنا نتحدث عن ظاهرة لا شك في وجودها أيضا.. ومَحْزنة جدة برهان واقعي ماثل وباكٍ.

3- درس أن (مرجعيات مكافحة الفساد) واضحة ومؤصلة في السعودية:

أولا: المرجعية الشرعية الدينية، وهي مرجعية استند إليها بيان الملك الخاص بمواجهة مأساة جدة.. نقرأ في هذا البيان: ((من المتعين علينا شرعا التصدي لهذا الأمر)).. ((تقرير الواجب الشرعي والنظامي وتحمل تبعاته مستصحبين في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من صنيع بعض أصحابه فيما ندبهم إليه)).. ونقرأ في البيان ـ كذلك: ((وامتثالا لقول الله تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).. إن آية الأمانة الآنفة تنتظم ـ بلا شك ـ أمانة أداء المسؤوليات والوظائف العامة في الدولة والمجتمع. ولما كان خير تفسير هو تفسير القرآن بالقرآن، فإن الآية السابقة مفصلة ـ مثلا ـ في آية أخرى هي: ((يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)).. ومن المقطوع به: أن الوظائف والخدمات العامة مركوزة في صميم الأمانة ببرهان قول النبي لأبي ذر ـ حين طلب الأخير وظيفة عامة ـ: ((يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)).. ومن الدلالات المرعبة ـ في هذه الآية ـ لذوي الضمائر الشريفة: أن خيانة المسؤوليات العامة اقترنت بخيانة الله ورسوله.

ثانيا: المرجعية القانونية النظامية، فبيان الملك استند إلى عدد من الأنظمة السعودية في هذا الشأن منها: نظام تأديب الموظفين. ونظام ديوان المراقبة العامة. ونظام المرافق العامة. ونظام المنافسات والمشتريات الحكومية.

هذه المرجعيات (قاعدة صلبة) لمطاردة الفساد في كل مرفق. لكن هذه المرجعيات الواضحة الحاسمة تحتاج إلى (تفعيل ناجز ومستمر) ذلك أن (البطء) جزء من الفساد، أو مناخ مريح له، وهو تفعيل ذو احتمالات تحقق قوية تحت قيادة رجل يعاف الفساد بحكم خصائصه الشخصية، وبمقتضى مسؤولياته القيادية.

ومادمنا في نطاق الصراحة، فإننا نقول: إن الملك عبد الله لا يستطيع ـ وحده ـ أن يكافح الفساد، بل لا بد أن يصطف وراءه كل مواطن نظيف الضمير واليد، وكل كاره للفساد، وكل متضرر منه، ولاسيما أن الملك قد طلب من المواطنين في كلمة البيعة أن ينصحوا له، وأن يعينوه على القيام بمسؤولياته، ومنها (الإصلاح) الذي من بديهياته وأولوياته: لجم الفساد ومطاردته.