عززوا القوات ثم انسحبوا

TT

عكف الرئيس الأميركي باراك أوباما طيلة شهور على التفكير بشأن الاستراتيجية المتبعة حيال أفغانستان. لكن عندما حان الوقت كي يفسر قراره بشأن هذه الاستراتيجية، بدا رابط الجأش، وذا نظرة تحليلية.. وبدا هادئا في حديثه عن سياسة يعي جيدا أنها ستتعرض للهجوم من قبل الجانبين الديمقراطي والجمهوري.

وفي حديث له أمام مجموعة من الصحافيين، قال «أنا مدرك تماما لأن هذه السياسة تفتقر إلى التأييد على الصعيد السياسي. وهي لا تفتقر إلى الشعبية فحسب، وإنما تفتقر أيضا إلى التأييد داخل حزبي. لكن ليس هذا هو السبيل الذي أنتهجه نحو صنع السياسات».

جاء حديث أوباما خلال حفل غداء أقيم داخل مكتبة البيت الأبيض. وعلى الجدران من حوله، كانت هناك كتب تسجل المحن والانتصارات في تاريخ من سبقوه، والذين شنوا في بعض الأحيان حروبا كانت لها عواقب مؤلمة. لكن هذا الرئيس لا يسبب العذاب، على الأقل على الصعيد المعلن.

أثناء حديثه، قدم أوباما عرضا مفصلا لاستراتيجيته الجديدة تميز بالدقة والتركيز. الملاحظ أن أوباما لم يتحدث عن النصر، ولم يرفع نبرة صوته. ولم يحاول أن ينقل إلى المستمعين الشعور بدماء ودموع ميدان القتال، أو الوحدة المؤلمة التي تعانيها القيادة العسكرية. حتى عند إعلانه أصعب وأخطر القرارات خلال فترة رئاسته، حرص أوباما على البقاء بعيدا عن الأداء الدرامي.

مساء الثلاثاء، أوضح أوباما وجهة نظره حيال الاستراتيجية الجديدة من فوق منصة كبيرة في «ويست بوينت»، أمام حشد من الطلاب العسكريين. لكن خطابه لم يكن صيحة حرب، مثلما أكد في خطابه، وإنما دعوة «لوضع نهاية ناجحة لهذه الحرب».

في الواقع، اتخذ أوباما القرار الصائب، حيث رأى أن «استراتيجية الخروج» الوحيدة الممكنة من أفغانستان تبدأ بتعزيز القوات، عبر إرسال 30.000 جندي إضافي لتأمين المراكز السكانية الكبرى، بحيث يمكن نقل السيطرة لاحقا إلى الجيش والشرطة الأفغانية. وتمثل عملية النقل تلك، التي من المقرر البدء فيها في يوليو (تموز) 2011، لب استراتيجية أوباما حيال أفغانستان.

وعلى ما يبدو، يشعر القادة العسكريون بالارتياح إزاء قرار أوباما، رغم أنهم كانوا يأملون لو أنه لم يستغرق مثل هذه الفترة الطويلة. وتشير بعض الأقاويل إلى أن أدميرال مايك مولن، رئيس هيئة الأركان المشتركة، تساوره السعادة على نحو خاص إزاء قرار أوباما بالإسراع بتوجيه قوات إضافية إلى أفغانستان في غضون ستة شهور فحسب، وهو موعد أقرب مما طلبه جنرال ستانلي ماكريستال.

وأعرب أحد المسؤولين العسكريين البارزين إلى أن عملية النشر السريعة من شأنها إمداد ماكريستال بالجنود الذين يحتاجهم في أسرع وقت ممكن، وفي وقت كاف يمكنه من الفوز بالمبادرة.

بيد أنه سياسيا، تحمل هذه الاستراتيجية عناصر تثير سخط مختلف المعسكرات، فالديمقراطيون سيغضبون من إقدام الرئيس على تصعيد حرب مكلفة في وقت ينبغي أن يمثل فيه الاقتصاد المتردي أولوية أولى بالنسبة له. أما الجمهوريون فسيعترضون على استراتيجية أوباما بحجة أنه من خلال تحديد موعد نهائي غايته 18 شهرا للشروع في سحب هذه القوات، فإنه بذلك ينقل رسالة ضمنية إلى جماعة «طالبان» مفادها أن بإمكانهم إحراز النصر فقط إذا ما تحلوا بالصبر.

مساء الثلاثاء، شدد أوباما على أنه «في ظل الظروف الراهنة، يعد هذا الخيار الأفضل المتاح أمامنا». وفي موضع آخر، اعترف قائلا: «ليس من بين هذه الخطوات ما هو بالهين. أعني أننا نختار من بين قائمة خيارات بعيدة تماما عن المثالية».

الملاحظ أن حديثا كثيرا جرى حول كيف أن هذه الحرب بمثابة حرب فيتنام جديدة بالنسبة لأوباما، لكن الرئيس رفض هذا التشبيه. في الواقع، لم يقتل الفيتناميون قط 3.000 فرد داخل الولايات المتحدة مثلما فعل تنظيم القاعدة. كما أننا لا نخوض حربا ضد حركة قومية في أفغانستان، علاوة على أن الرئيس حريص على عدم الإعلان عن التزامه بالحرب هناك على أجل غير مسمى.

وفي حديثه إلى الصحافيين، قال أوباما «التظاهر بصورة أن تلك بلاد بعيدة لا صلة لها بنا أمر يجانبه الصواب». وأنا شخصيا أتفق معه، فأفغانستان تتسم بأهمية حيوية بالنسبة للمصالح الأمنية الأميركية. ومع ذلك، لا أعتقد أنه سيتمكن من إقناع الكثير من أعضاء مجلس النواب من الحزب الديمقراطي بوجهة نظره.

إن السؤال الأكثر أهمية فيما يخص استراتيجية أوباما لا يحمل طابعا سياسيا، وإنما براغماتيا: هل ستنجح؟ لقد ركز أوباما تعريفه للنجاح على التركيز على القدرة على نقل السيطرة إلى الأفغان. ولا يبدي أوباما اهتماما كبيرا بالأفكار الكبرى المتعلقة بمكافحة التمرد، ويصر على أنه سيعمل على تجنب «الالتزام ببناء الدولة في أفغانستان». ومن شأن ذلك تيسير إعلان التوصل إلى «نتيجة جيدة بما يكفي» في يوليو (تموز) 2011، إن لم يكن نصرا.

عندما سألت أوباما عما إذا كانت «طالبان» ستحاول الانتظار حتى نرحل عن البلاد، أجاب بأن «هذه حجة لا أوليها كثيرا من المصداقية، لأنه لو اتبعت منطق هذه الحجة، لن تنسحب أبدا، أليس كذلك؟ إن اتباع هذه الحجة يعني الالتزام بأفغانستان باعتبارها خاضعة للحماية الأميركية إلى أجل غير مسمى».

ويعتقد أوباما أن تحديد مواعيد زمنية نهائية من شأنه إجبار الأفغان على الإسراع من جهودهم وتوحيد صفوفهم. لكنني أرى أن هذه الفكرة تشكل العنصر الذي يدور حوله القدر الأكبر من الشكوك من بين كل عناصر استراتيجيته الجديدة. إنه بذلك يخبر عدوه بأنه سينسحب في وقت محدد، ويخبر حليفه بالاستعداد لتولي المسؤولية بحلول ذلك الوقت، وإلا ماذا؟ هذه تحديدا أضعف حلقة وصل في قرار رائع، فأنا لا أتفق مع فكرة أن نعزز قبضتنا من خلال الإعلان مسبقا أننا سنرخيها.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»