إيران وعقدة الاضطهاد

TT

عادت إيران إلى الصفحات الأولى من الصحف البريطانية قبل أيام بعد أن انزوت أخبار لعبة «الاستغماية» مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في الصفحات الداخلية وبأخبار مختصرة.

فمناورات إيران لمخادعة العالم بأنها لا تسعى لامتلاك سلاح نووي لم تعد خبرا جديدا إلا عند اكتشاف أمر كانت تخفيه، أو تتحرك الوكالة لجرها للمثول أمام مجلس الأمن، وأيضا تظل في الصفحات الداخلية.

عودة إيران للصفحات الأولى في بريطانيا كانت لاختطافها (البعض سماه احتجازا) لأربعة بريطانيين وأيرلندي ليسوا ساسة أو دبلوماسيين، لا بحارة أو عسكريين، وإنما مجموعة أصدقاء يعملون في الخليج لإعالة أسرهم، تعطل محرك قاربهم فدفعه التيار، رغما عنهم، إلى المياه الإقليمية لإيران.

ورغم متابعتي لتطورات أزمة إيران مع العالم بسبب إصرارها على المضي في تخصيب اليورانيوم غالبا إلى مرحلة اللاعودة عن صنع القنبلة، فإن الأزمة الأخيرة التي افتعلتها إيران أضافت بعدا جديدا إلى القلق.

ضلال أشخاص يبحرون سواء بعطل فني أو خلل في البوصلة، أو بسوء قراءتهم الخرائط، أمر يتكرر حول العالم وتدخل القوارب إلى المياه الإقليمية لعشرات البلدان. ببساطة تقوم دوريات خفر سواحل هذه البلدان بإعادة توجيههم، أو بسحبهم إلى أقرب ميناء لإصلاح القارب.

وقبل عامين استنفرت البحرية الاسترالية عدة زوارق حربية ومدمرتين وطائرات هليكوبتر للبحث عن شخص واحد انقلب قاربه وظل تحته يتنفس من الهواء المحبوس تحت القارب حتى تمكنوا من إنقاذه.

في حالات قليلة إذا ما شك ضباط خفر السواحل في احتمال أن يحمل القارب مخدرات أو مواد مهربة من الجمارك، يقوم بالتفتيش والاعتذار لأصحاب القارب في حالة عدم وجود شيء مشتبه فيه.

أما في المناطق التي يحاول فيها مهربو البشر استغفال الحالمين بالهجرة لأوروبا عبر المتوسط بحشرهم في قوارب غير صحية فإن خفر سواحل وبحريات البلدان المختلفة تبذل أقصى الجهود لإطعام وإيواء وعلاج من يزدحمون في قوارب التهريب، ومعظمهم يطلب اللجوء السياسي أو يعاد إلى بلاده.

باختصار لا يحدث أبدا أن يحتجز ركاب قارب ضل خط ملاحته أو تعطل محركه أو تمزق شراعه، ودخل المياه الإقليمية عن غير قصد.

السؤال هو هل تعمد الإيرانيون انتهاز الفرصة باختطاف (احتجاز) خمسة لا شأن لهم بالسياسة لافتعال أزمة تنبه العالم إلى أنهم يستطيعون أن يختطفوا الأضواء ويعودوا للصفحات الأولى؟

هذه اللعبة يمارسها الكوريون الشماليون كلما نسيهم العالم بافتعال أزمة كاحتجاز الصحافيتين مثلا.

وقد يكون الأمر أكثر خطورة، وهو تعددية التيارات في الأوليغاركية الثيولوجية الحاكمة، وزوارق ما يعرف بالحرس الثوري تجوب مياه الخليج، وتبحث عن أي فرصة لاستعراض قوتها وسطوتها (في السنوات الأخيرة من الحرب العراقية الإيرانية كانت تعيث في المياه فسادا وتعترض طرق السفن حتى أغرقت البحرية الأميركية بضعة قوارب لها عام 1987 تطبيقا لقانون أعالي البحار في حماية الملاحة في المياه الدولية).

الأكثر خطورة هو احتمال أن يعكس تصرف الحرس الثوري الإيراني حالة مزاجية عامة انتشرت بين الطغمة الحاكمة وهي مجموعة حاكمة تستند إلى الدين، أي تشبه سيطرة الكنيسة في عصور ما قبل عصر النهضة في أوروبا على العقول بشكل يجعل الاختلاف معها أو مع تفسيرها لأمور الدين والدنيا نوعا من الكفر، ورأينا السهولة التي يمكن بها إخراج المؤيدين من «بلطجية» حماية النظام لضرب المحتجين إلى درجة الموت لأنهم تجرأوا واستفسروا عن تزوير إرادة الناخب، وبالتالي فإن هذه الحالة المزاجية تنعكس ولا شك على قطاعات كبيرة من الشعب.

هذه الحالة يشخصها أطباء النفس والمحللون النفسيون ودارسو سيكولوجية السلوك فيما يسمى بعقدة الاضطهاد، أي يصبح الشخص paranoid. وهذه الحالة قد تتراوح من مجرد أعراض يعكسها تصرفات الفرد إلى حالة المرض القهري فتوجه تصرفات الشخص وكأنها محرك خفي.

المصاب بعقدة الاضطهاد يرى في ظلال الأشجار جواسيس أو في أي طلب لتصحيح مساره لو كان ضل طريقا، هجوما على كرامته.

وهناك حكاية شهيرة لمثقف من بلد عربي نزل ضيفا على اتحاد كتاب موسكو التي كانت حليفا لهذا البلد ـ وحكمه نظام بوليسي ـ أثناء الحرب الباردة، وأقنع المثقف نفسه بأن صمام رش المياه المثبت في السقف في غرفته في الفندق والذي يعمل تلقائيا عند حدوث حريق، هو ميكروفون أو جهاز للتجسس فتسلق بوضع كرسي فوق المنضدة محاولا فك الجهاز فاغرق نفسه والغرفة بالمياه الباردة وكانت فضيحة.

وأحيانا ما تدفع عقدة الشعور بالاضطهاد الشخص إلى أن يحاول التحكم في الظروف المحيطة به، وسلوك الآخرين فيتحول إلى مسخ التسلط control freak لأن هذا في تصوره سيمكنه من الحيلولة دون السماح للآخرين ـ الذي يشك في نواياهم نحوه بسبب عقدة الاضطهاد ـ بحرية الحركة لإيذائه.

الأحداث المتكررة تشير إلى معاناة القيادات السياسية الإيرانية من عقدة الاضطهاد، وبسبب تحكمها في الإعلام وأدوات توجيه الرأي العام ـ ومرجعيتها دائمة انقلاب مصدق الذي ساعدت فيه مخابرات أميركا وبريطانيا الشاه والتيار الموالي له، وهو تيار شعبي لا يستهان به عام 1953 ـ فإنها نقلت هذه العقدة إلى أجهزة ومؤسسات الدولة، بما فيها القوات المسلحة والبوليس وبقية أجهزة الأمن وأقواها الحرس الثوري وهو دولة داخل الدولة وأقوى أجهزة البطش.

والحرس الثوري في زوارقه التي تجوب مياه الخليج، من مجرد رؤية قارب ليس فيه أي أسلحة سوى سكين لقطع الخبز، واعتقالهم بدلا من مساعدتهم، واحتمال تحول الأمر إلى أزمة سياسية، هو من أعراض عقدة الاضطهاد.

هذه العقدة والتوجس من الغرب ـ واعتبار بلدان الشاطئ العربي من الخليج جزءا مما يسميه الملالي «الغرب المعادي» ـ والتي يروج لها الإعلام الإيراني، ونظام تعليمي بمناهج تعمق هذا الإحساس في نفوس الجيل الأصغر بدلا من محاولة الشفاء منه هو أخطر ما يهدد السلام الإقليمي اليوم.

فمحاولة إيران تطوير قدرة نووية مستقلة هي جزء من التركيبة السيكولوجية للنظام الإيراني ابتداء من أصغر ضباط الحرس الثوري سنا ورتبة حتى مكتب المرشد العام نفسه.

وإذا تخيلنا سيناريو تقترب فيه طائرة عسكرية أو سفينة ـ أو ما يعتبره الإيرانيون بعقدة الاضطهاد تهديدا ـ من الأجواء الإيرانية أو السواحل الإيرانية بطريق الخطأ، ويتصاعد الأمر بسرعة إلى مواجهة عسكرية، في وقت تكون إيران بنظامها الحالي قد امتلكت السلاح النووي.

وحتى يشفى الإيرانيون من هذه العقدة، أو يتبدل النظام ستظل مساعي إيران لزيادة قدرتها على تخصيب اليورانيوم والاستمرار في بناء المفاعلات النووية هو أخطر ما يهدد الأمن الإقليمي والسلام العالمي.