في الفساد السياسي

TT

مؤخرا صدر تقرير دولي يضع العراق مع مجموعة من الدول الانتقالية في صدارة الدول الأعلى فسادا، الذي اعتبر من الجانب العراقي بأنه مبني على معطيات غير دقيقة لم تأخذ جهود الحكومة المتنامية في كبح الفساد، وأنه ظل يعيد تكرار تقييمات السنين السابقة المبنية على مسموعات أكثر من ملامسة الواقع العملي، إلا أن المعروف أن منظمة الشفافية الدولية وإن كانت بعيدة ميدانيا فإنها تضع عددا من المعايير التي تصلح للقياس في كل مكان من العالم تقريبا، ثم إن اختلال التقييمات يجب أن لا تقلل من المخاطر، فالبنك الدولي الذي يصف الفساد على أنه إساءة استخدام السلطة لأجل الفائدة الشخصية، حيث تتساوى مخاطر الفساد، سواء واسع النطاق أو ضعيفه في أنها تقوض تطور المجتمع المدني وتفاقم الفقر، خصوصا عندما يسيء المسؤولون إدارة أو استخدام الموارد العامة التي كان يجب أن تستخدم لإيجاد حياة أفضل، كما أنه يشكل من جهة أخرى تهديدا خاصا للديمقراطية وحكم القانون، وتحديدا في البلدان النامية الانتقالية، حيث يقوض المساءلة المالية ويعيق تدفق الاستثمارات الأجنبية ويعيق الأداء الاقتصادي ويقلل الثقة بالنظامين القانوني والقضائي، لذا فيبدو بوضوح، وكأحد الأكلاف واجبة الدفع، أن الفساد بات قرين التحولات الديمقراطية، أو فوضى الديمقراطية، إلا أن في هذه الفوضى يظهر أيضا فساد ليس أقل خطورة، وأعني الفساد السياسي. الفساد السياسي كظاهرة قد تتداخل أو تفترق عن الفساد المالي أو الاجتماعي إلا أنها تكون مع هذين النوعين من الفساد ثالوثا متضافرا لتخريب أي عملية لبناء الدولة وتنمية المجتمع وترسيخ المؤسسات. ويعبر عن الفساد السياسي بممارسات يقوم بها السياسيون وتستهدف التحايل إن لم يكن الخرق المباشر للقانون عبر إساءة استخدام السلطة وتوظيفها لمصالح تقع خارج إطار الاختصاص القانوني أو الإداري أو التشريعي ولا تنسجم مع مصالح الشريحة أو الشرائح الاجتماعية التي يفترض أن يسعى السياسي إلى تمثيلها أو التعامل معها. ويتجسد الفساد السياسي عبر المحسوبية والمحاباة والانتقائية في تطبيق القانون وتقديم الرابطة الشخصية أو العائلية أو الفئوية على عناصر الكفاءة والقابلية في التعيين أو توزيع الخدمات أو التعاقد، كما أنه يأخذ أشكالا أكثر خطورة عندما يصل سوء استخدام السلطة إلى مرحلة تقديم مصلحة الدول أو الأطراف الخارجية على المصلحة الوطنية. إن الفساد السياسي يروج عندما تتوفر عناصر من أهمها، ضعف وتفكك مؤسسات الدولة وغياب التنسيق والإدارة وإمكانية المحاسبة فيها، وثانيها، اختراق تلك المؤسسات من جهات أو مصالح تتخطى بل وتناقض أحيانا المصلحة العامة التي استوجبت وجود تلك المؤسسات، وثالثها، غياب أو ضعف الثقافة المؤسساتية والبنى الاجتماعية الحديثة المواتية لها وسيادة وهيمنة البنى التقليدية مع كل ما تتطلبه من تضامنات عشائرية أو مناطقية أو طائفية ومن شخصنة العمل السياسي والمؤسساتي، يسهل ذلك ضعف أداء أو كفاءة آليات الضبط والموازنة، لا سيما عندما يخترق الفساد السياسي تلك المؤسسات التي يفترض أن وجودها وفاعليتها شرط أساسي للحيلولة دون استشرائه، ويتم ذلك في ظل ضعف الشعور الوطني والهوية الوطنية وسهولة انقياد السياسيين لخدمة مصالح قوى وجهات خارجية دون امتلاك حصانة لمقاومة إغراء تلك الجهات. وإذا ما نظرنا إلى هذه المعطيات سيكون بإمكاننا القول بسهولة إن النظام السياسي العراقي يخضع إلى حد كبير لحالة من استشراء الفساد السياسي الذي قاد إلى إضعاف فاعلية الدولة وكفاءة أجهزتها في التصدي إلى الإشكاليات القادمة كما وفر عناصر إضافية لإعاقة التنمية والإصلاح والتطوير بفعل تحويل بعض المؤسسات التشريعية أو التنفيذية أو القضائية إلى أجهزة لإعاقة الدولة من داخلها وإلى كبح أي خطوات للتغيير الجدي أو لإعادة بناء المؤسسات على أسس سليمة تؤدي إلى محاصرة ظاهرة الفساد السياسي وإضعاف قابليتها على التخريب. إن المحاصصة الحزبية هي إحدى أوجه الفساد السياسي لا سيما حينما تتجلى في أكثر حالاتها تطرفا كتلك المتمثلة باستغلال المنصب الوظيفي لرفد المصالح الحزبية على حساب المصلحة العامة أو لإعاقة ومقاومة مشاريع من شأنها التخفيف من معاناة المواطنين وتفعيل أداء المؤسسات. بالمثل فإن الشخصنة المفرطة للمنصب السياسي هي جزء من تراث الدولة العراقية وأحد أهم عوامل فشلها لأنها تقترن بإضعاف البنية المؤسساتية وبسيادة العقلية التآمرية والانهماك بالدفاع عن المنصب على حساب القيام بالواجبات التي يفترضها.

إلا أن الذي بات يلحظ عندنا وبمفارقة أن الفساد السياسي بات يقتسمه من هم في الحكم ومعارضوهم، كما يقتسمه من هم في داخل العملية السياسية ومن يسعى لتقويضها، فكأن النقد هو بقصد تبادل الأدوار والمواقع ليس إلا.

ربما المستقبل القريب يختزن الأفضل في ظل الأمل بتراجع الاهتمام والانشغال بالدوافع الإثنية والقومية والطائفية في تفضيلات الناخب وبأنها لن تعود ذات دور حاسم في اختياره لمرشحيه، وأن تتقدم بدلا عنها عوامل أخرى كالقدرة على الإصلاح وأحداث النمو الاقتصادي وخلق وتعظيم الموارد الكفيلة بتمويل طموحات الناس لحياة أفضل، إلا أن هذه البرامج والانشغالات يلحظ وبأسى أنها غائبة أو منزوية عن أغلب برامج القوى السياسية ويحظر