نيويورك في عهد جولياني

TT

لا أذكر تماما كم دامت غيبتي عن نيويورك. ربما عقد ونصف العقد إلا قليلهما. وقد حدثت في غياب فرد، من بين عشرات الملايين الذين يحضرون، تحولات وهولات كثيرة. نجح الحاكم رودولف جولياني في تغيير صورتها تماما. وسوف أنقل هنا عن السفير عبد الله بشارة، في مقال حديث له، يقارن فيه بين ما أصبحت عليه نيويورك في عهد جولياني، وبين ما كانت عليه في السبعينات والثمانينات، من شوارع حافرة وأرصفة بلا بلاط ومشردين بلا حدود أو قيود. ويعبر السفير بشارة بصراحة عن مشاعر الخوف التي كانت تنتاب الناس يومها. وقد كنت من الخائفين. لكن لم يخطر لي أن الدبلوماسيين يخافون هم أيضا في سياراتهم الخاصة، أو أن أهل الأمم المتحدة ليسوا محصنين حتى ضد المشردين.

وكنت في تلك الأيام أعبر نيويورك مشيا، منبهرا بفسح جاداتها وشاهق مبانيها، مأخوذا بحداثتها المتجددة، خائفا من ضخامتها ومن تجمدها الروحي. وما استخدمت «المترو» إلا في الاضطرار النادر، لكثرة ما سمعت عن صلافة أهله وخشونة الركاب، في مدينة مستعجلة، سماها يوما الزميل حافظ إبراهيم خير الله «طاحونة البشر».

وكم تذكرت هذا النعت وأنا أقف في طابور المطار أمس. تتطلع في الذين أمامك فتظن أنك في الصين، وتتطلع في الصفوف حولك فتظن أن آسيا جاءت برمتها في رحلة خاصة. وخشيت أن أبدو مخالفا لشروط القدوم، لكن رجل الأمن أخذ طول الرحلة في الاعتبار وأظهر ودا غير مألوف في مطارات أميركا، التي تستقبل كل يوم طائرات 3 آلاف شركة محلية. فقط محلية.

وحدثت هولات كثيرة. أو بالأحرى غزوة واحدة أعلن فيها المجاهد أسامة بن لادن، وطبيب الصحة أنور الظواهري، والسيد الناطق الرسمي سليمان أبو غيث، من كهف خاص من كهوف أفغانستان، أنهم دمروا المال الغربي بالعلم الغربي. طائرات تدمر أعلى الأبراج، بمجرد أن يستخدم خطفها مخرزا لتحطيم الثلج. ما الجديد في الأمر؟ لا شيء مهم، سوى أن الأخ المناضل الرسمي أبو غيث غاب منذ ذلك الوقت عن الأسماع والأنظار، وتولى مسألة الشرائط أهل القيادة العظمى.

لماذا؟ أخشى أن السبب في السوابق. فقد سمى ياسر عرفات نفسه «ناطقا رسميا» باسم «فتح» وظل وليا عليها حتى الرمق الأخير. وكذلك فعل أحمد (هل يقصد خالد) مشعل في «حماس» وندعو له بطول العمر. والاعتذار للسيد سليمان أبو غيث، في أي ديار أو تورا يكون، لأن عز الناطقية لم يدم أكثر من بيانين أو ثلاثة، لعل الهدف الوحيد منها كان إعطاء صورة «كونية» لـ«القاعدة»: رجالنا من كل مكان.

لم يستطع نحو 300 ناخب أميركي في فلوريدا، عند «جد بوش» أن يعطوا شقيقه الأكبر، جورج، أي شرعية أو شعبية أو قبول. تبرع بذلك المجاهد، والدكتور، والناطق. ثم تلا ذلك ما تلا.