التجربة العراقية والتجربة الألمانية

TT

تكلم البعض عند غزو العراق عن تطبيق التجربة الألمانية على العراق، أي ضخ الأموال والخبرات لإعادة بناء البلد. نجحت التجربة في ألمانيا بشكل أذهل العالم فوقفت على أقدامها بعد سنتين أو ثلاث من انتهاء الحرب وأقامت أقوى اقتصاد وصناعة في أوربا جعلت المنتصرين عليها يتوسلون بها ويشحذون منها. تساءلوا: «ألا يمكن تطبيق نفس التجربة على العراق؟»، أجاب على ذلك روبرت مكنمارا، مدير البنك الدولي السابق فقال: «ولكن العراقيين ليسوا ألمانا!».

ما الفرق بين الاثنين؟ إنه مستوى التعليم والمعرفة. من أسباب تفوق الجندي الألماني على الجندي الإنجليزي في الحرب العالمية الثانية كان تميز الجندي الألماني بمقدرته في التقنية. كان الجندي الإنجليزي يجلس، يشرب البيرة، وينتظر حتى يأتي مهندس ويصلح له دبابته الخربانة. الجندي الألماني كان قادرا على إصلاحها بنفسه. يفسر ذلك إلى حد ما تفوق الإسرائيليين علينا في الحرب. ما زال ثلث العرب أميين. الإسرائيليون ليسوا متعلمين مائة في المائة وإنما ثلاثمائة في المائة. فمعظم الإسرائيليين يتقنون قراءة وكتابة ثلاث لغات على الأقل، لغته الأصلية (كالعربية أو الروسية) واللغة العبرية واللغة الإنجليزية.

أثير الموضوع في الثلاثينات. فعندما سنّت الحكومة العراقية قانون التجنيد الإجباري عارضه بعض المفكرين، وعلى رأسهم الشيخ محمد رضا الشبيبي. قال إن ما يحتاجه العراق هو التعليم الإجباري لا التجنيد الإجباري. لم تعبأ بمقاله الحكومة وضاعت الفرصة. بدلا من الحصول على شعب متعلم حصلنا على جيش أمي لم نكسب منه غير الهزائم والانقلابات والمؤامرات وتبديد البلايين من الأموال والحكم الدكتاتوري.

عندما تأسست المملكة العراقية، اجتمع القادة في بيت يوسف السويدي، أحد زعماء الثورة العراقية. تناقشوا في أمر الميزانية حتى جاء ذكر ميزانية الدفاع. فقال: «ما هذا؟ وما اللزوم له؟»، قالوا: «شلون يعني؟» دولة دون جيش؟ كيف ندافع عن البلد؟ أجابهم فقال: «الإنجليز أقدر منا وأحرص على الدفاع عنه، ففيه النفط». ضحكوا عليه واستهزأوا بكلامه. أمسك لحيته وقال: «زين يعني تريدون جيشكم؟ طيب خذوا جيشكم. لكن إذا ما ندمتو عليه فأنا مو يوسف السويدي!».

وكان أحسن وأصدق ما قاله في حياته من كلام.

لقد أثبتت الحروب الحديثة في كل مكان أن من ينتصر فيها ليس الشجاعة ولا الإيمان ولا السلاح ولا العدد وإنما الأكثر تعلما ومعرفة. يكفيني أن أشير إلى الحرب التي جرت بين الإنجليز والأرجنتين في جزر الفوكلاند.

والعجيب أن معظم رجال الدولة والسياسة والفكر السياسي عندنا لم ينتبهوا لذلك حتى الآن. ما زالوا يعطون الأسبقية في النفقات والاهتمامات للجيش لا للتعليم والثقافة. أتساءل متى سنعطي المعلم والمعلمة راتبا أعلى من راتب الملازم ومكانة أقدم من مكانة الضابط؟ متى سنعاقب من يتخلف عن إرسال أولاده إلى المدرسة بدلا من معاقبة من يتعلم ويفكر؟