اعتذار متأخر

TT

في أحد مقالاته يذكر أستاذنا أنيس منصور أنه كان يتردد على (المكتبة الفاروقية) لقراءة الكتب عندما كان تلميذاً، وقد تلقى شهادة كتبها أمين تلك المكتبة يقول فيها: قرأ ابننا أنيس محمد منصور كل الكتب الموجودة في هذه المكتبة وعددها 1174 كتاباً.

ولا شك أن الأستاذ أنيس من أكثر الأدباء القارئين والكاتبين والمؤلفين، ولا أظن أن هناك أديبا عربيا معاصرا قد خاض في مختلف الاتجاهات والمدارس الفكرية أكثر منه.

وبما أنه ذكر المكتبة التي كان يتردد عليها، فإنه أعاد ذاكرتي للفصل الذي كنت أدرس فيه في المرحلة المتوسطة ـ مع الفارق طبعاً ـ، وكان قد أسس لنا الأستاذ المشرف على الفصل مكتبة متواضعة في ركن الغرفة لكي يشجعنا على القراءة وفيها عشرات الكتب التي لا يزيد مجموعها على مائة كتاب.

وكل تلميذ كان يستلف كتابا ويقرأه ويعيده كان يحسب له، وفي نهاية العام الدراسي عندما راجع أستاذ الفصل الكتب (المقروءة والمستعارة)، كنت أنا أكثر التلاميذ قراءة، وبما أنني بارع كذلك في مجال الرسم والفن عموماً، فقد طلب مني الأستاذ أن أعمل لوحة وعليها كل أسماء تلاميذ الفصل، وأمام كل اسم (عامود) بياني يحدد الكتب التي قرأها، وذلك لكي يعلقها في المعرض الشامل الختامي للعام الدراسي.

وفعلا أخذت أقوم بهذه المهمة وتلكأت بها إلى ما قبل الافتتاح بيوم واحد، وبعدها علقتها على الحائط في المكان المقرر لها.

وافتتح المعرض واكتظ بأولياء الأمور والزوار، وصعق الأستاذ عندما شاهد اللوحة البيانية، إذ أنني وضعت أمام اسم كل تلميذ عدد الكتب التي قرأها فعلا، في حين أنني وضعت أمام اسمي عدداً كبيراً من الكتب، إذ إنني لم أكتف بالكتب التي قرأتها ولم أقنع أنني الأول، بل إنني استغللتها فرصة و(شطحت) وبالغت، وأصبح بيني وبين الثاني من بعدي أكثر من عشرين كتاباً، رغم أن الفارق ما بيني وبينه في الواقع هو كتاب واحد فقط.

وغضب الأستاذ مني غضباً شديداً، ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئاً، لأن اسمه كان على اللوحة على أساس أنه هو الذي عملها ومحّصها وهي تحت إشرافه، ولو أنه كذّب البيانات التي فيها فسوف يضع نفسه في مأزق محرج وتهتز مصداقيته أمام المدير والإدارة عموماً، وسوف ينعكس ذلك على سمعته ومستقبله، ولا أنسى تعابير وجهه عندما كان بعض الزوار يثنون أمامه على تلك اللوحة، بل إن بعضهم طلبوا مشاهدة ذلك التلميذ النابغة الذي قرأ هذا الكم من الكتب، وكنت أتقدم لهم لأتلقى التهاني والتبريكات منهم، وكانت عيني في عين المدرس المغلوب على أمره وكأنني أتحداه.

ولا شك أنني في وقتها قد استغللت ذلك الموقف أسوأ استغلال، ورغم جبروت ذلك الأستاذ أثناء العام الدراسي، إلا أنه كان في ذلك اليوم في موقف ضعيف لا يحسد عليه.

والآن وأنا أخط هذه الكلمات، وفي هذه اللحظة بالذات بدأ ضميري يؤنبني على ما فعلت. صحيح أن هذا التأنيب تأخر كثيراً، ولكن أن يصل متأخراً أفضل من أن لا يصل أبداً.

وأعتذر للأستاذ إن كان حياً، وأترحم عليه إن كان قد اتكل على الله.

[email protected]