قال كينيث جاكسون، مؤرخ المدينة، إنها «لا تستمد هويتها من مكان ولا قومية ولا من جماعة إثنية، ولكن من توافد جميع الأمكنة وجميع القوميات وجميع الأديان وجميع طرائق العيش». أسهل شيء في السفر والهجرات، أن تصبح نيويوركيا. هذه هي بوابة «العالم الجديد»، وكل ما خلفك، وراء الأطلسي الذي عبرته، هو العالم القديم. بكل قصوره وقلاعه وحروبه وآدابه وطباعه. هنا، هذا الذي هنا، هو ما سمي منذ قرون «العالم الجديد».. عالم بُني على غرار الكلمات المتقاطعة، أفقيا وعموديا. وإذا أخطأت الطريق فالحق عليك. عالم بناه مهندسو ما بعد البارون هوسمان والعصور النابوليونية التي جاء ربابانتها من كورسيكا، فبنوا فرنسا، وتولوا النمسا، وما زالت كورسيكا جزيرة صغيرة تناقر الوطن الأم مثل نقار الخشب، طير أفلام الكرتون. منذ البداية بُني كل شيء على الابتداع. المبنى البسيط العادي يرتفع عدة طوابق. لا تفكر في الفولاذ والزجاج على علو مائة طابق. فكر في المصاعد التي تدفع إلى فوق. وفكر في المياه وكيف تدفع من الأقبية. وفكر في الذين ينظفون الزجاج من الخارج عندما تكون سرعة الرياح قوية. فكر جنابك. أنا كلما فكرت، اكتشفت أن التفكير يزيدني جهلا في هذه الإنجازات البشرية، التي تخطت العقول العادية منذ أن خاطب المستر أليكسندر بل صديقه في لندن من نيويورك بكلمة واحدة: هالو.
كل شيء فعلته نيويورك، أنشأته على طريقتها. نقلت المسرح اللندني وجعلته مسرحا نيويوركيا، هائلا، باذخا، مفرطا في الحداثة والإنتاج، ثم تركت لندن تحاول تقليده. ونقلت البورصة اللندنية وغربتها بسبعين سبعة سبعينات. ونقلت الموضة الباريسية وأعادتها إلى فرنسا. وأغرت مصممي إيطاليا وعلماء ألمانيا وكتاب الولايات الأخرى، وقالت لهم تذكروا أن هذه نيويورك. حسّنوا الأشياء عشرة أضعاف وأثروا مائة وعشرين ضعفا.
لذلك يغتني فيها الناس اغتناء ويفتقر فيها الفقراء أيما فقر وشح وأرصفة وعراء وجوع. وعندما ترى عشرات آلاف السيارات تغادر مانهاتن في المساء فهي تحمل مئات الآلاف من الذين يعملون هناك في النهار، لكن لا يملكون ثمن البقاء في الليل. كنت أقرأ منذ أيام أن جاكلين كينيدي اشترت شقتها في بارك أفينو بربع مليون دولار. وأردت أن أقارن مدى تغير (وليس ارتفاع) الأسعار فعرفت أن ثمن شقة مرتفعة في المبنى المحاذي لفندق «بيار» هو ملايين الدولارات. ولا ضرورة للتوضيح بأنني قررت الاستنكاف عن الشراء، لسبب واضح أيضا، هو أنني لا أمضي في المدينة كل ذلك الوقت.