سويسرا.. صراع المآذن والديمقراطية

TT

لولا نصيحة صديقه فاريل بالبقاء في جنيف لانتهى الأمر بالثائر البروتستانتي جون كالفن أن يصبح حبرا مغمورا في مدينة ستراسبورغ التي كان قد أعد عدته للارتحال إليها. وتحت إصرار صديقه فاريل قال كالفن إنه شعر بيد العناية تتدلى من السماء لتبقيه في جنيف. وسواء أكان حديث كالفن عن «يد العناية» إلهاما حقيقيا أم حيلة سياسية فإنه قد أصبح في حوالي منتصف القرن السادس عشر الحاكم الفعلي لمدينة جنيف باسم الكنيسة، وأصبحت مدينة جنيف ملجأ للبروتستانت الأوروبيين من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية.

كانتون جنيف كان أحد أربعة كانتونات فقط لم تصوت لمصلحة حظر المآذن، ولن يكون من الدقة أن ننسب ذلك للتراث الذي أرساه كالفن، لأن التاريخ يحدثنا أن كالفن نفسه حكم جنيف باسم السماء وبيد من حديد لم ترحم خصومه. قد يكون التفسير الأقرب هو أن جنيف، على خلفية الحروب الدينية القاسية التي شهدتها عبر قرون، قد آثرت أن تكون أكثر تسامحا تجاه الأديان الأخرى.

لكن تسامح جنيف لم يغن شيئا، فقد صوتت معظم الكانتونات الباقية على قرار حظر المآذن بما جعل سويسرا تبدو فجأة أشبه بإمارة أوروبية قرن أوسطية يلهب ساستها مشاعر الغوغاء القاصدين إلى بيت المقدس لتحريره من المسلمين. ومن العدالة، رغم تلك الصورة المؤسفة، أن ننوه بالرفض الواسع للقرار من قبل المؤسسات الدينية، وفي مقدمتها الفاتيكان، والتيارات السياسية الوسطية واليسارية في أوروبا ضد القرار.

وليست أهم دلالات هذا الخبر هي الاستنتاج بأن موجة كراهية الإسلام بدأت تغرق أوروبا، فقد تكون لذلك الاستنتاج شواهد يومية أقوى من حادثة حظر المآذن التي لا يعد بناؤها ركنا من أركان الإسلام على أي حال. لعل الدلالة الأهم هي أن الاستفتاء ونتيجته يعيدان طرح معضلات ظن دعاة الديمقراطية أنهم قد تجاوزوها منذ وقت بعيد.

المعضلة الأولى هي جدوى الاستفتاءات نفسها في نظام ديمقراطي. وحيث إن الاستفتاءات تعوّل على حكمة الفرد بكل إمكاناته المحدودة في التمييز، وميوله غير المنطقية بالضرورة، ومخاوفه غير المبررة، وسوء ظنونه، ومطامعه الحيوانية الوضيعة، كل ذلك دون توجيه من قوى سياسية راشدة ومنظمة وأقدر منه على تبين المصالح العامة ومراعاتها، فإنها ـ أي الاستفتاءات ـ جديرة بأن تدفع المجتمعات إلى استجابات غوغائية غير راشدة. وقد ظل المتحمسون لبدعة الاستفتاءات يقللون من خطر تلك المخاوف حتى حدث ما حدث في سويسرا فجاء مصداقا لما ظل يردده معارضو الاستفتاءات.

المعضلة الثانية هي السؤال عن محددات القرار الديمقراطي. وهل يمكن قبول نتائج غير ديمقراطية بقرار ديمقراطي. فمنذ صعود الرايخ الثالث بقيادة أدولف هتلر إلي قيادة ألمانيا عام 1933 عبر إجراءات ديمقراطية سليمة، تغلب الرأي القائل بأن الديمقراطية لديها قابلية الانتحار، وأنه يجب لذلك رفض أي قرار، مهما كانت إجراءاته ديمقراطية، إذا كان محتواه غير ديمقراطي.

المعضلة الثالثة تنشأ، كما حدث في الاستفتاء السويسري، عندما تصادر الديمقراطية أهم مبرراتها وهي الحرية. فلا توجد حجة أقوى لدى أنصار الديمقراطية من حجة الحرية. ولذلك يثور السؤال: «من يملك الحرية في تقييد الحرية عندما تكون حقا أساسيا؟». والحق الأساسي المقصود هنا هو حق الاعتقاد الذي هو أقوى من حق التعبير، لأن الإنسان قد يختار ألا يعبر عن ما يعتقده، لكن لا يوجد إنسان لا يعتقد شيئا. وبرغم أن قرار الاستفتاء لم يحرم المسلمين من معتقداتهم، فإنه يعزز التخوف من أن يكون الاستفتاء القادم هو على أصل حرية المسلمين أو اليهود أو السيخ في الاحتفاظ بمعتقداتهم.

مضى زمن كانت أقوى حجة يدفع بها الذين ينادون بتعريف الديمقراطية تعريفا أدق هي أن القرار الديمقراطي الإنساني غير المقيد بضوابط أخلاقية يمكن أن يؤدي إلى دمار الإنسان ذاته ودمار معيشته في النهاية. وعندما كان هؤلاء يواجهون بإيراد الأمثلة على ذلك كان أفضل ما يختارونه هو إباحة الشذوذ والإجهاض وقتل الرحمة، ولم يكن ذلك مقنعا بما فيه الكفاية لدى أنصار الديمقراطية الذين يرون أنه لا بأس حتى بتلك الممارسات. لكن الحدث السويسري الراهن أمد دعاة الديمقراطية المنضبطة بضوابط أخلاقية غير قابلة للإزالة بحجة أشد نصوعا، وهي أن الديمقراطية بلا ضوابط أخلاقية تتحرك في سياجها قد تؤدي يوما ما إلى قتل الديمقراطية في جذورها. وربما أفادت هذه الحجة المتدينين عموما وطمأنتهم إلى قوة موقفهم بأنه لا ضمان للقيم والحقوق، وفي مقدمتها الحرية، أقوى من استمدادها من نصوص سماوية لا تقبل التغيير أو الانقلاب الديمقراطي.

ربما لم ينجح كالفن حاكما لجنيف، لكنه نجح كواحد من أقوى زعماء الحركة البروتستانتية، وانتشر أتباعه في شتى أنحاء المملكة المسيحية، وتبنت تعاليمه بصورة خاصة الكنيسة المشيخية التي تجد رواجا كبيرا في الولايات المتحدة الأميركية. وكما كانت جنيف، وسويسرا عموما، قبل أربعة قرون منطلقا لحركة تغيير ديني كبرى، قد تكون سويسرا هذه المرة منطلقا لانتكاسة كبرى للتسامح الديني في أوروبا. المخرج الوحيد من هذا المصير في ما يبدو هو ليس فقط في أن تعيد سويسرا النظر في قرارها بشأن المآذن، بل ربما في أن تعيد النظر في نموذجها الديمقراطي قبل أن ينقض عليه أتباع الرايخ الثالث الذين تضخم وجودهم في أوروبا هذه الأيام.

* مستشار الرئيس السوداني ومسؤول ملف دارفور في الحكومة السودانية