إصلاح المصرف الاحتياطي الفيدرالي الذي لا نبغيه

TT

منذ إنشائه عام 1913، دخل مصرف الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في صراع ضد تناقض سياسي هائل، حيث يتحمل المصرف مسؤولية الحيلولة دون انهيار النظام المالي والمصرفي، الذي تعد قوته عنصرا أساسيا بالنسبة لـ«الاقتصاد الحقيقي» المرتبط بالوظائف والإنتاج. إلا أن الحاجة لتقديم إعانات مالية عادة ما تظهر عندما يقترف مصرفيون ومهنيون عاملون في مجال الاستثمار أخطاء أو يسيئون التصرف، الأمر الذي يجعلهم شخصيات منبوذة على الصعيد العام. وعليه، فإنه من أجل الاضطلاع بالمهام الموكلة إليه، يحمي المصرف ـ أو يبدو وكأنه يحمي ـ مجموعة من المسؤولين ممن تحيط بهم مشاعر السخط والعار والازدراء. والآن، نعاين هذا التناقض في أقوى صوره.

الواضح أن مصرف الاحتياطي الفيدرالي تحول إلى كبش الفداء الذي اختاره الكونجرس لتحميله اللوم عن الإخفاقات الاقتصادية التي عانتها البلاد وتتمثل في معدلات البطالة التي وصلت إلى 10.2% والإعانات المالية الضخمة التي وجهت لإنقاذ مؤسسات مالية هشة (مثل «أميركان إنترناشونال غروب» و«سيتي غروب»)، والعلاوات المالية مفرطة الضخامة التي يتقاضاها مسؤولو «وول ستريت»، بجانب الأزمة الاقتصادية ذاتها.

جدير بالذكر أن لجنة الخدمات المالية التابعة لمجلس النواب صوتت أخيرا لصالح إلزام «مكتب المحاسبة الحكومي» بـ«تدقيق» السياسة النقدية لمصرف الاحتياطي الفيدرالي ـ أي جهودها للتأثير على معدلات الفائدة وشروط الاعتمادات. داخل مجلس الشيوخ، اقترح كريستوفر دود، رئيس اللجنة المصرفية، تجريد المصرف من سلطاته المتعلقة بتنظيم المؤسسات المالية ـ في إشارة إلى إجراءاته الرامية لتنظيم ممارسات الإقراض والإدارة، بحيث يجري نقل هذه السلطات إلى وكالة جديدة.

المثير أن ردود الفعل السلبية تجاه مصرف الاحتياطي الفيدرالي صادرة من قبل الحزبين الديمقراطي والجمهوري. على سبيل المثال، فإن عضو مجلس النواب عن الحزب الجمهوري، رون بول، هو صاحب مقترح إجراء عملية تدقيق من قبل مكتب المحاسبة الحكومي، الأمر الذي يعتبره خطوة أولى باتجاه إلغاء مصرف الاحتياطي الفيدرالي. (في الواقع يحمل كتابه الأخير عنوان «عليكم كتابة نهاية مصرف الاحتياطي الفيدرالي»). ويفضل بول إحياء معيار الذهب الدولي وجمعه بالأموال الخاصة، بحيث يمكن لـ«ول مارت» إصدار عملات. ورغم أن وجهات نظره تعكس آراء كانت قائمة منذ أمد بعيد وتقوم على مبادئ سامية، فإنها تفتقر كلية إلى طابع عملي. وبالطبع، ينتمي دود إلى الحزب الديمقراطي. في الواقع، تعكس كثير من الانتقادات التي يوجهها الكونغرس إلى مصرف الاحتياطي الفيدرالي ميول الكونغرس لإلقاء اللوم عن أي شيء سلبي على أي جهة أخرى.

أما الأمر الذي ضاع في خضم هذا المناخ المشحون سياسيا حقيقة أن مصرف الاحتياطي الفيدرالي اضطلع بدور أكبر عن أي وكالة حكومية أخرى في الحيلولة دون تحول الذعر المالي الذي أصاب البلاد الخريف الماضي إلى كساد عالمي. من جانبه، ضخ مصرف الاحتياطي الفيدرالي أكثر من تريليون دولار في صورة اعتمادات جديدة، وأسس برامج إقراض خاصة بهدف تعزيز القطاعات المتداعية من أسواق الاعتماد (أوراق تجارية والصناديق التجارية المالية)، وأنقذ مؤسسات مالية من الانهيار، أبرزها «أميركان إنترناشونال غروب»، التي كان من المحتمل أن يسفر إفلاسها عن سلسلة من الانهيارات الأخرى. وقد جاءت تلك الإجراءات بمثابة استجابات تلقائية جرى اتخاذها في خضم الأزمة. ولن يتسنى لنا قط معرفة الصورة التي كان سيصبح عليها الوضع حال عدم اتخاذها. والآن، يراجع البعض النظر في مدى صحة هذه الإجراءات بعدما تراجعت المخاوف وتوافرت مزيد من المعلومات.

من بين الأمور الأخرى التي يجري تجاهلها أن مصرف الاحتياطي الفيدرالي لا يعد وكالة بالغة السرية لا تخضع للمساءلة على غرار بعض المؤسسات السياسية. يذكر أنه عام 2009، أدلى مسؤولو مصرف الاحتياطي الفيدرالي بدءا من رئيسه، بين بيرنانك، إلى من هم دونه بشهاداتهم أمام لجان تتبع الكونغرس 32 مرة. في أعقاب كل اجتماع، كانت «لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية»، الكيان الجوهري الموكل إليه اتخاذ القرارات فيما يخص السياسة النقدية، تصدر بيانا يشرح سبب تغييرها ـ أو عدم تغييرها ـ هدفها المتعلق بسعر الفائدة. حتى عام 1994، لم تكن تصدر بيانات في أعقاب اجتماعات «لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية». وكان على الخبراء الاقتصاديين والمستثمرين تخمين ما جرى في الاجتماعات.

على خلاف الاعتقاد السائد، تخضع نشاطات مصرف الاحتياطي الفيدرالي بالفعل إلى تدقيق واسع النطاق، حيث تضطلع مؤسسة «ديلوات آند توش» بتفحص البيانات المالية للمصرف، والتي يجري نشرها. وبإمكان مكتب المحاسبة الحكومي مراجعة الكثير من النشاطات التي يضطلع بها مصرف الاحتياطي الفيدرالي، بما في ذلك التنظيمات المصرفية التي يقرها والرقابة التي يمارسها على نظام الرواتب والأجور. أما النطاق الذي لا يحق للمكتب مراجعته فيتمثل في توجه السياسة النقدية، بما في ذلك العلاقات مع المصارف المركزية الأجنبية مثل المصرف المركزي الأوروبي.

حتى الآن، يتعامل الكونغرس مع الأمر على النحو التالي: أن لفظ «تدقيق» يحمل معنى مختلفا في إطار عمل مكتب المحاسبة الحكومية عن المعتاد في الاستخدام اليومي، فهي هنا تعني التفحص والتحقيق والتقييم، وغالبا توجيه النقد.

إن الأمر لا يتعلق بمعالجة الأرقام فحسب، وإنما عادة ما يضطلع المكتب بدراسات بناء على تعليمات من مسؤول في الكونغرس، الأمر الذي يوحي بأن المكتب يمكن استغلاله للتأثير على وتهديد المصرف الاحتياطي الفيدرالي عبر إجراء تحقيقات انتقائية. ويتضمن هذا الأمر بدوره الاطلاع على وثائق المصرف وإجراء مقابلات مع صانعي السياسات. وربما يتعرض المصرف لضغوط كي يمول عجوزات حكومية أو اتباع «نهج غير ملائم على المدى القصير»، حسبما أوضح نائب رئيس المصرف، دونالد كون، في شهادته أمام الكونغرس في 9 يوليو (تموز). تاريخيا، تسببت ضغوط مشابهة في إطلاق مصارف مركزية أخرى العنان لسيول تضخمية من الأموال، حسبما أكد كون.

ومع أن هذا الأمر ليس حتميا، فإن مجرد تكون انطباع حول أن «استقلالية» المصرف الاحتياطي الفيدرالي عرضة للخطر يمكن أن يقوض الثقة في الدولار، مما يؤدي بدوره إلى معدلات فائدة أعلى في السوق أو انهيار سريع في قيمة مقايضة الدولار بعملات أجنبية. من جانبها، تتسبب العجوزات الهائلة المتوقعة في الميزانية الحكومية في تفاقم التأثير النفسي لهذا الأمر. وتنطبق اعتراضات مشابهة على مقترح دود بوضع نهاية لسلطة المصرف الاحتياطي الفيدرالي الخاصة بتفحص وتنظيم المؤسسات المالية. وتنطوي الأزمة الراهنة على درس مستفاد مفاده أن المصرف بحاجة لمعرفة المزيد ـ وليس أقل ـ بشأن المؤسسات المالية الضخمة.

من ناحية أخرى، ينبغي التأكيد على أن المصرف غير معصوم من الخطأ، بل إنه في الواقع اقترف أخطاء أسهمت في الأزمة الحالية. الواضح أن سياسته الراهنة القائمة على أسعار الفائدة المنخفضة تنطوي على خطر زيادة مستوى التضخم أو «فقاعات» جديدة بمجال الأصول. بيد أنه على الجانب الآخر، تحمل هجمات الكونغرس ضد المصرف أخطارا أكبر. وتكمن المفارقة الكبرى أن جزءاً من الإجراءات المدمرة يجري الترويج لها باعتبارها جزءاً من تشريع يرمي إلى «الإصلاح المالي». لو كان هذا هو «الإصلاح»، فنحن أفضل حالا من دونه.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»