جدة محنة ثم منحة

TT

كلاهما غير مسبوق، المحنة والمنحة، سيول جدة الجارفة محنة تاريخية قاسية لم تعهدها جدة ولا كل البلاد، ومنحة الشفافية ومحاسبة الفساد والمقصرين «مرهم» ملكي وضعه الملك عبد الله على الجرح المناسب في الوقت المناسب، كان أمرا ملكيا شجاعا، ونقول إنه شجاع لأن الملك، أي ملك أو زعيم دولة في الدنيا، وإن بدا أنه يملك كل الصلاحيات ويتخذ كل القرارات، لكن تعقيدات اتخاذ أي قرار صعب وتأثيراته ومآلاته وأعراضه الجانبية المؤثرة على «المؤثرين» قبل المتأثرين تجعل كثيرا من الملوك والزعماء يترددون كما يتردد أي مسؤول كبير أو صغير، وهنا تتفاوت نسبة الشجاعة بين الزعماء الذين يملكون نفس الصلاحيات.

من الخطأ الفادح تبرير الأخطاء الكبيرة أو التقصير، ناهيك عن السكوت عن أوجه الفساد الإداري والمالي، وهذا بالضبط ما عناه الأمر الملكي، ومع أن هذه المكاشفة الملكية تعني بالدرجة الأولى مدينة جدة التي اختارها القدر الإلهي لتمر عبر هذه المحنة القاسية، إلا أنني متأكد أن بقية مناطق ومدن المملكة قد استفادت من الرسالة الملكية، وليس العيب في وجود التقصير والأخطاء والفساد فهذا ما لا يمكن محوه أو إزالته مهما بلغت صرامة أي دولة في الدنيا، والدليل وجود هذا الفساد في دول متقدمة عندها أجهزة حكومية ورقابية وبرلمانية صارمة، لكن الفرق بين هذه الدول ودول العالم الثالث أن نسبة الفساد المالي والإداري في العالم النامي «النايم» قد بلغت أرقاما فلكية، إذن فالإنجاز الحقيقي هو في كبح جماح الفساد وتقليص نسبه ومحاربة ظاهرته قدر الاستطاعة.

واللافت في هذا الشأن أن تقنية الاتصالات الحديثة مثل الجوال والنت قد دخلت بقوة في محاربة الفساد والرقابة والتأثير على صانع القرار، فلم تعد لوسائل الإعلام الرسمية أو شبه الرسمية في أي دولة في الدنيا القدرة على احتكار وفلترة الخبر، فيكفي لأي شاهد للحدث أن يلتقط مقطعا للكارثة ولا عليه حتى الذهاب للبيت وفتح الحاسب والدخول على النت، بل وهو في مكان الحدث يستطيع الدخول من جواله على النت وتحميل اللقطة في دقائق معدودة لتكون في متناول ملايين المشاهدين في العالم كله، ولهذا أخطأت وكالة الأنباء السعودية وأحسن وزير الإعلام والثقافة السعودي في تخطئته مندوبها الذي لم يفقه هذه المتغيرات التقنية فصور أهالي جدة ذلك اليوم الرهيب على أنهم مستمتعون بالأجواء المطيرة مستنشقين لنسماته الطرية على شواطئ البحر!

ومع أن هذه المصارحة الملكية والشفافية السامية أرادت أن تلوح بالعقاب لكل من يثبت تورطه في التسبب في مأساة جدة الإنسانية والمفجعة، إلا أنها أيضا أعطت درسا لبعض الأقلام التي تعودت على المسارعة إلى تبرير الأخطاء وتسويغ التقصير ونفي وجود الفساد أو تهوينه أو السكوت عنه، وكأن مجتمعنا ملائكي وبعض المسؤولين أطهار أنقياء أو كما يصف المتنبي «خلقت مبرأ من كل عيب كأنك خلقت كما تشاء».

المشكل أن سكوت حملة القلم عن أمانة المحاسبة أو سرد التبريرات أو الدفاع عن المقصرين أو التستر على الفاسدين هي بحد ذاتها مشاركة في الجريمة، لأن من يأمن عقوبة المساءلة الصادقة الحقيقية وخاصة من يحملون أمانة الكلمة، يعطي إشارة خضراء للمتمادين في الفساد للاستمرار في فسادهم والعكس صحيح، ثقافة المكاشفة الصادقة بين المواطن والمسؤول والتي تقوم على الموضوعية وعدم التهويل واختيار اللغة الهادئة المتزنة هي إحدى ثمرات الأمر الملكي الأخير. يحدثني أحد الذين كانوا يحضرون مجلس الملك فهد عليه رحمة الله أنه ذات مرة أبدى تبرمه من أن بعضا ممن كانوا يتغشون مجلسه لا يسمع منهم إلا الثناء والإطراء، وأنه كان يفرح حين ينبهه أحد زواره إلى خلل أو تقصير في عمل الدولة، وكأنه يقول صديقك من صدَقك لا من صدَّقك، وهذا أيضا ما فهمناه من إقرار الملك عبد الله بوجود تقصير ومقصرين في مأساة جدة حتى ولو كانت كارثة بيئية طبيعية، وأنا على يقين أن الجميع قد استوعب الدرس الملكي.