حكومة لتصريف أعمال اللبنانيين.. بعيدا عن السياسة!

TT

«السياسة هي فن البحث عن المشاكل، والعثور عليها، وإساءة تشخيصها،

ثم معالجتها بصورة خاطئة».

(الممثل الكوميدي الراحل

غروتشو ماركس)

هناك أسئلة يستحيل الإجابة عليها بـ«نعم» أو بـ«لا».

منها، على سبيل المثال، أن يُسأل شخص لم يسبق له أن ضرب زوجته: «هل أقلعت عن عادة ضرب زوجتك؟». فإذا أجاب بـ«لا» سيُفهم من جوابه أنه ما زال يضربها، وإن أجاب بـ«نعم» سيُفهم من الجواب أنه كان يفعل.. لكنه أقلع عن هذه العادة أخيرا.

معظم اللبنانيين التقدميين المنفتحين، الذين طالما ناضلوا من أجل إسقاط «الطائفية السياسية» المتحكمة بلبنان منذ استقلاله المفترض عام 1943، وجدوا أنفسهم في وضع ذلك الزوج المسكين.. في أعقاب طرح الرئيس نبيه بري، رئيس مجلس النواب وأحد أذكى الساسة اللبنانيين، اقتراحه بـ«إلغاء الطائفية السياسية».

فالموافقة على اقتراح الرئيس بري، ضمن الظروف السياسية والأمنية والديموغرافية والاقتصادية المخيمة على لبنان والمرتبطة بها إقليميا، تنم عن سذاجة ما بعدها سذاجة.. أما رفضها فسيدمغ الرافض بتهمتي التمسك بالصيغة الطائفية و«النفاق» في المطالبة بإلغائها.

ولنعُد إلى القضايا الأساسية التي تحكم اللعبة السياسية في لبنان، بأبعادها الإقليمية الخطيرة..

لبنان، الذي يدخل هذه الساعات «سوق عكاظ» خلال جلسة الثقة بأول حكومة يرأسها سعد الحريري.. يتبارى فيها طالبو الكلام من أعضاء مجلس النواب باستعراض مواهبهم الخطابية، ومدى اهتمامهم بهموم الشعب، ومواقفهم «المبدئية» التي لا تلين إزاء مصيره. مع أن هذه الحكومة منذ نقطة الانطلاق لتشكيلها تبعا لنتائج انتخابات يونيو (حزيران) الماضي محكومة باعتبارات يتداخل فيها العامل المحلي بالعوامل الخارجية من مختلف الأنواع والقياسات.

فبادئ ذي بدء، رغم أن كلا من التحالفين العريضين اللذين خاضا الانتخابات، أي «14 آذار» و«8 آذار»، قائم على الجمع التكتيكي للأضداد، فإنها جرت بحد مقبول من النزاهة والضبط وأقرّ معظم المتنافسين بصدقيتها.

وعلى أساس النتائج ظهرت «أغلبية» و«أقلية» سرعان ما ارتبكت حسابات أرقامها نتيجة خروج كتلة «اللقاء الديمقراطي» بقيادة وليد جنبلاط من «14 آذار»، ومع ذلك أصرّت «الأغلبية» المنزوعة السلاح على إثبات «شرعية» تفويضها الشعبي في وجه «الأقلية» المسلحة بتسميتها الحريري لرئاسة الحكومة.

ثم أدلى رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان بدلوه، معلنا إصراره ـ وهذا من حقه ـ على أنه لن يوافق على إصدار مراسيم أي حكومة ما لم تكن «حكومة وفاقية».. أو «حكومة وحدة وطنية»، كما بات معروفا. وبعد مخاضٍ عسير تضمّن اعتذار الحريري، وإعادة تسميته في ظل استمرار الواقع الذي أدى إلى الاعتذار.. أمكن تشكيل حكومة جاءت «تركيبة مصغرة» لمجلس النواب مع تمتع مَن كانت توصف بـ«الأقلية» بثلث أصوات قادر على التعطيل داخل مجلس الوزراء، وهذا، بعد احتفاظها برئاسة مجلس النواب الذي أغلقته لأكثر من سنة، وطبعا بالسلاح، الكفيل باحتلالها لبنان كله أي ساعة تشاء.

وسط هذه الحقائق، جاء تشكيل الحكومة ومن ثم التفاهم على بيانها الوزاري، ثمرة لـ«الواقعية السياسية» عند الساسة اللبنانيين لدى قراءتهم اتجاه الرياح الإقليمية والدولية التي تهبّ على بلدهم وطوائفهم.. وقطعانهم. وبناء عليه، قد يُجيد خطباء البرلمان ويسترسلون في إثارة القضايا خلال جلسة منح الثقة.. لكن النتيجة محسومة لأنه ليس هناك من متكلم تقريبا ليس له مَن يمثله في الحكومة الحريرية الجديدة. فاليوم، حَسْب النواب الالتفات إلى المسائل المعيشية التي تمسّ الناس مباشرة من دون التكلم في «السياسة العليا». ذلك أن «السياسة العليا» خرجت من مجلس النواب ومن الحكومة ومن البلد كله. ومصير لبنان، ذلك الكيان ـ المعضلة عاد جزءا يتعذّر عزله عن فواتير المنطقة، وبخاصة، بعد ما دفعت الأنا المتضخمة والأحقاد الصغيرة المتبادَلة عند أحزابه وقياداته الطائفية والتقليدية ـ مدنيين وعسكريين ورجال دين ـ إلى تهميش أهميته كواحة من التعايش والتعدّدية والسلم الاجتماعي والأهلي.

لقد تآمر ساسة لبنان على وطنهم في الوقت غير المناسب وبأسلوب غاية في السوء.. أقنع، حتى بعض مَن كان يتعاطف مع حقه في الوجود والاستقلال، بأن اللبنانيين ـ في نهاية المطاف ـ لا يستحقون أكثر ممّا يرتضون به لأنفسهم. وبالتالي، لا ضير في تسليم مصيره مجدّدا إلى قوى إقليمية أثقل منه وزنا وأجدى نفعا في عقد الصفقات الاستراتيجية.

عودة إلى اقتراح إلغاء الطائفية السياسية..

حري باقتراح من هذا النوع، مع الاحترام للرئيس بري، أن يأتي من جهة تؤمن بإلغاء الطائفية من منطلق مبدئي لا استنسابي. فما الذي تغير بين اليوم، الذي يُقترَح فيه المباشرة ببحث «لا طائفية» النظام،.. والأمس القريب، عندما أغلق البرلمان.. فاستبيحت ساحات بيروت بالاعتصامات وشعارات التخوين.. وسُحب الاعتراف بـ«شرعية» حكومة قائمة لمجرّد أن قوتين طائفيتين قاطعتاها واعتبرتاها مقاطِعة ـ أو على الأقل غير ممثلة ـ لطائفتيهما؟

كيف يُمكن إلغاء الطائفية السياسية في بلد تَحتكِر فيه السلاح قوة طائفية من لون واحد، وتبرّر استخدامه شرعيا بقرار من خارج لبنان؟ وكيف يُمكن إلغاء الطائفية السياسية عندما تصبح «الفيدرالية» سبّة تستحق التخوين، مع أنها شكل مقبول لـ«اللا مركزية» معمول بها في أرقى دول العالم التي يتباهى أبناؤها بالانتماء إليها والذود عنها؟

ثم على صعيد مختلف لكنه متصل، هناك موضوع التصدي للتوطين، الذي اختير مبررا محوريا للتفاهم بين حزب الله والتيار العوني.

ثمة سؤال يطرح نفسه، مع العلم أن مسألة التوطين ما كانت وليست هي اليوم خيارا عند أي جهة طائفية في لبنان ـ وعلى رأسها المسلمون السنة ـ هو كيف سيمنع سلاح حزب الله توطين الفلسطينيين في لبنان؟ وهنا لا أعتقد أنه من المفيد الانزلاق إلى الجدل القديم عمن يستحق التجنيس من الفلسطينيين الموجودين على أرض لبنان منذ 1948، مع أن الخبراء في «التوازنات» و«الظلامات» الطائفية، وبالذات، في التيار العوني، يعرفون عن هذا الموضوع أكثر مما يكشفون.

أيضا، يمكن التساؤل عن الشق الطائفي في «فزّاعة» التوطين من منظور الفتنة السنية ـ الشيعية التي تطبخ على نار ما عادت هادئة أبدا في أنحاء عدة من الوطن العربي. وهو ما يدفع حاليا بعض القيادات السنية الحامية الرأس إلى التساؤل ـ علنا أحيانا وضمنا أحيانا أخرى ـ عما إذا كانت مقاومة التوطين ستحتل حقا مرتبة متقدمة في أولويات حزب الله لو كانت الهوية الطائفية لفلسطينيي لبنان مختلفة عما هي عليه.