غذاء القلب

TT

يدهشني دائما أنه لا شيء يحرك العواطف بمختلف درجاتها وأنواعها كالموسيقى. وهي مسألة حيرت الفلاسفة لعشرات القرون حين أدركوا أن تأثير الموسيقى على الإنسان شامل وكامل بصرف النظر عن اختلاف الأمكنة والأزمنة. فالموسيقى تعزينا في أوقات الحزن وتنعشنا في أوقات الفرح وتقربنا ممن نحب. وقد يكون السبب هو أنها وسيلة تواصل تخاطب العاطفة بلا حاجة إلى تعريف أو تفسير للمعني. وفي هذا لا يختلف الشخص البالغ عن الطفل حديث الولادة.

الموسيقى في جميع مراحل العمر جزء مهم من حياة الإنسان لا يقل أهمية عن اللغة والحركة. فهي أداة من أدوات الثقافة التي تقوي إحساس الفرد بالانتماء إلى مجموعة أو إلى مجتمع، فضلا عن ارتباطها بالوظائف البيولوجية المختصة بحب البقاء ومحاربة الخوف والعزلة وبتكوين المجتمعات الإنسانية. وأبلغ دليل على ذلك أنواع الموسيقى البدائية والموسيقى الشعبية ذات الإيقاع المنظم والتي تنبثق عنها الموسيقى العسكرية في أوقات الحرب والرقصات الجماعية في مواسم التزاوج والحصاد.

البعض يعترف للموسيقى بالفضل ويعتبرها هبة من الخالق للمخلوق والبعض الآخر يعتبرها من عمل الشيطان، وفي كلتا الحالتين الموقف هو اعتراف ضمني لما للموسيقى من أثر على النفس البشرية. فالأنغام الموسيقية تفعل العديد من الدوائر الكهربية في المخ فتؤتي أثرا فوريا أسرع من الحوار بأي لغة. وحين يؤلف صاحب الموهبة مقطوعة موسيقية حزينة أو يدق طفل لا يتجاوز العامين على سطح الطاولة ليحدث ضوضاء منغمة ثم يعبر عن سرور بالغ بإنجازه فكلاهما يفعل لكي يؤثر على جمهور مشارك.

ولو لم نعترف بتأثير الموسيقى علينا كأفراد فلنتأمل إقبال الناس من جميع الأعمار على النوادي الرياضية التي تعتمد على إيقاع الموسيقى المنظم في شحذ الطاقة المطلوبة لممارسة الأيروبكس، أو إقبال المراهقين على أغاني البوب والراب وما يصاحبهما من رقصات توقيعية محمومة أحيانا. والعكس صحيح أيضا. فالموسيقى الهادئة باعثة على الاسترخاء والهدوء والتخلص من القلق وتخفيض مستويات هورمون الكورتيزول في الدم. وأبلغ دليل هو الأغاني الهادئة التي تغنيها الأمهات للأطفال الرضع لتشجيعهم على النوم. وفي بعض المستشفيات يوصي الأطباء بتعريض المريض الذي يتأهب للخضوع إلى علاج جراحي لموسيقى هادئة لأن الموسيقى تخفف الألم.

حين بدأت مشوار الاغتراب كطالبة علم منذ سنوات طويلة كانت الموسيقى الكلاسيكية هي مدخلي إلى أفضل ما في ثقافة الغرب. أتذكر اليوم والساعة والمكان الذي دعيت إليه للإنصات إلى نماذج من موسيقى الباروك. وما إن فرغ الصوليست من عزف كونشيرتو ليوهان سباستيان باخ حتى شعرت بأنني خرجت من مرحلة وجدانية إلى أخرى بلا رجعة. وبدأت قصة حب ما زالت مستمرة مع الموسيقى الكلاسيكية بأنواعها

بالأمس دعينا كأسرة للاحتفال بعيد الأضحى في بيت أسرة عربية مغتربة واكتظ البيت بأكثر من 50 مدعوا بين مصري ولبناني وجزائري وفلسطيني وسوري من الشباب والشيوخ. وسط الزحام والضجيج وإغراء الحلوى والطعام شعرت بالضيق والرغبة في الهرب إلى أن التقطت أذني صوت العود وصوت يصاحبه بأغنية من أغنيات أم كلثوم. وجدت طريقي إلى حيث الموسيقى وإلى حيث جلس الناس، لا فرق بين مصري وجزائري، يصاحبون النغم بسرور وإحساس بأن اللحظة تحتوينا وتهدهدنا وتجمعنا وتعزز انتماء كل منا للآخر.

فحمدا لله على نعمة الموسيقى، وتباً لشر النفوس التي تخرج من ظلام الجحور لبث الفرقة والشقاق.