السبق والسلامة

TT

هبطت في قلب الخبر. لا أدري ما هي العلاقة بين حظي ومصادفة الأحداث، اللهم لا تجعلني جزءًا منها، ألا يكفي حظ المرء أن يعيش عليها؟

في مايو (أيار) 1968 وصلت إلى باريس في إجازة بلهاء، لأن لا سبب آخر لها، ولا وصف آخر.

ووجدت نفسي صباح اليوم التالي أغطي ما عُرف فيما بعد بثورة الطلاب أو مفترق 1968. وكنت بكل صراحة، وبكل تأكيد، أفضل السلامة والهدوء على السبق الصحافي، الذي صار، مهنيا، محطة في سيرتي. الصحافي رغما عنه، على رأي صاحبنا موليير.

وها أنا، بعد أيام قليلة في نيويورك وأروقة الأمم المتحدة، تنفجر حرب العبور، التي لا يزال العرب أجمعون يرفضون تصديقها. فكل ما حصل من عبور السويس، ليس سوى «بولوتيكا» يا عم.

هنا، في نيويورك، كنا نشهد التاريخ يصنع نفسه ويصانع الأمم. رجال صاروا الآن أسماء في الكتب ودوائر المحفوظات، يتحركون أمامنا في القاعات والأروقة، يتجالسون على أطراف السلالم، يختفون في قاعات الاختفاء، ثم يخرجون على العالم (كل العالم الذي في الانتظار) بوعد بالحل، بشيء من حل، بقرار، بمشروع قرار، بلا قرار، بلا اتفاق، لا بل باتفاق ما. بشيء ما.

هنري كيسنغر. إسماعيل فهمي. أبا إيبان. عشرات المندوبين. وخارج المبنى الأزرق تتوزع التظاهرات واليافطات. وما حُسم أمر الجهة الغربية إلا بعد حسم أمر الجهة الشرقية. لقد ولد القرار 338 ملحقا بقرار 242. أي أعطي أنور السادات ملحقا إضافيا على القرار الذي أعطي جمال عبد الناصر. لكن هذه المرة كمنصة إلى المفاوضات. في الطريق إلى «س.س» سراب السلام. أو سلام السراب. صارت الأمم المتحدة آخر مكان «أغطي» فيه الأشياء كمراسل. وكما كتبت غير مرة، وجدت فيها الصيغة المثلى لرجل مثلي، لا يريد شيئا غير الصحافة ولا يريد حساسيتها العربية. إذا طرحت سؤالا على جهول جهل جهيل ظن أنك تريد نقله إلى السي.آي.إيه أو إلى الكرملين. وذات صيف وصلت إلى نيويورك لمقابلة مع الأمين العام، السنيور دي كويار. وفي الوقت نفسه سرى خبر في الأروقة أن مندوبا من «حزب الله» وصل ومعه رسالة خاصة له. وعلى الفور وزع موظف في أرشيف «الأسوشييتد برس» خبرا عاجلا بأن المندوب هو أنا والرسالة أنا حاملها. وصدق كثيرون هذا الهبل إلا اثنين؛ دي كويار و«حزب الله»، ومعهما حامل الرسالة الحقيقي.

ما لنا نغرق ونستغرق في الماضي؟ لكن الماضي القريب هو حاضرنا بعد. لم يخرج منا بعد ولم نخرج منه. إنه الضوء الذي نحوم حوله مثل الفراش. بسعادة، بندم، بغضب، بألم، بفرح. بمزيج من الماضي التي كناها فيه.