الفنان والآلة

TT

قال الكاتب الإنجليزي الساخر في أوائل القرن العشرين إن الإنسان اخترع المكرفون ولكن لم يعرف ماذا يقول به. وفي أواخر ذلك القرن كنت قد قلت إن الإنسان اخترع الأورغ ولم يعرف كيف يعزف به. تذكرت ذلك في أثناء الحفلة الخيرية التي أقامها صندوق «هاديا» لمساعدة الأطفال المقعدين في تونس. ولم يكن عازف الأورغ في هذه الحفلة واحدا منهم، بيد أن قطب الأمسية كان ذلك النجم اللامع إبراهيم عزام. إذا كان الفلسطينيون قد خسروا المعركة السياسية والعسكرية ضد الصهيونية، فإن هذا الفلسطيني قد خسر المعركة الصوتية ضد آلة الأورغ.

يظهر أن عازفي هذه الآلة من العرب قد تأثروا بالزعماء العرب، وهو أن جمهورنا لا يفهم غير الزعيق والصراخ. ما إن أخذنا مقاعدنا حتى دخلنا في معركة مع مهندس الصوت. يا أخي ارحمنا وخفّض صوت الأورغ شوية حتى نفهم ونتذوق الموسيقى والغناء. خسرنا المعركة واستمر الأورغ يصرخ في وجوهنا، أو بالأحرى بآذاننا، ففتحت حقيبتي وأخرجت سدادات الأذن وأحكمت دسها في كلتا الأذنين، وهو ما أفعله دائما كلما ذهبت إلى حفلة عربية. وأوصي أيضا القراء بفعله، فعلماء النفس يرون أن تحمل الضوضاء من علامات الغباء.

انتقلت المعركة إلى الجبهة الثانية عندما بدأ هذا الفنان المرهف الحس بغنائه، فرغم كل صوته القوي، أخذ الأورغ يغطي عليه. اضطر أن يرفع صوته من طبقة عالية إلى طبقة أعلى. لم ينفع. فأخذ يقرب المكرفون من فمه حتى كاد يتبادل البوس معه. إنه يعتبر من أحسن من يقلد أغاني عبد الوهاب الذي جمعته وإياه لقاءات مثمرة، ولكنه في هذه الحفلة التونسية نوّع منتخباتها بحيث تنقل من «يا دنيا يا غرامي» إلى «يا ام العباية» وأحسن في أدائها جميعا.

لإبراهيم عزام صوت أوبرالي جهوري. يستطيع مغنو الأوبرا الوصول بصوتهم إلى أعلى المقاعد من الطابق الرابع للقاعة دون مكرفون. وهذه الحنجرة الفلسطينية ليست بحاجة إليه، بيد أن المغني الأوبرالي يغني لجمهور يتمسك بالإصغاء ويحسن الاستماع. هكذا كان جمهورنا في عهد أم كلثوم. كان السامعون يشكلون جزءا من الحفلة وآلة من التخت الموسيقي. لا ينشغلون بالأكل ومناقشة القضية الفلسطينية. هكذا تشعر وأنت تسمعهم في أي تسجيل قديم لـ«انت عمري». وكذا ترى في تلك الأسطوانة القديمة «مالي فتنت بلحظك الفتاك»، والسامع يتفاعل مع كل كلمة تنشدها. فاتت تلك الأيام.

جمهور الأورغ غير جمهور العود، والآلة تحل محل الإنسان. عاد الموسيقار الشهير يهودا منوحين من إسطنبول فقال إن تركيب مكبرات الصوت على المنائر أفقد المسلمين عنصرا مهما من عناصر تراثهم. ذكروا لعبد الوهاب عجائب ما تفعله هذه الآلة الإلكترونية، الأورغ، تقلد الكمنجة وتنفخ كالأورغان وتضرب كالعود وتنقر كالطبلة، وكل شيء. فقال: «ما تعملشي كوبتشينة؟» وآن لنا أن نتساءل: «ما تقولشي الله.. الله؟».