الخلافة العبّاسيّة: رجال الأمن يزاحمون رجال السياسة

TT

قيل الكثير عن استقالة محمود عباس، واحتمال اعتزاله. لذلك أؤجل الحديث عنه. وأقدم عليه الحديث عن المرشحين لوراثة الخلافة العباسية. كانت الصورة التي رسمت لهم سريعة. مختصرة. ثم ما لبثت أن توارت. أصيبت بالشحوب، بعدما تردد أن الخليفة مستعد للعودة.

الأمر المدهش في المرشحين للوراثة يشرِّف عباس: لا سلالة. لا أخ. لا زوجة أثيرة تدعم ولدا مدللا. لا أولاد عمومة وخؤولة. لا عشيرة. لا قبيلة. لا طائفة. كما باتت العادة والتقليد في النظام الجمهوري «الوراثي».

الأمر الآخر، الأكثر مدعاة للدهشة والتشاؤم، كون رجال الأمن يزاحمون رجال السياسة على وراثة الخلافة العباسية. الديمقراطية الفلسطينية سوف تكون مهددة، بعد الاستقلال، بزحف «حماة الديار» لقلب رجال السياسة والسلطة، تماما كما فعلوا بالأنظمة العربية المستقلة.

إذا لم تحدث مفاجآت، فالحرس الجديد من رجال أمن وساسة، سوف يزيحون رجال الحرس القديم. ها هو المخضرم أحمد قريع أُقصي من اللجنة المركزية لـ«فتح» إلى مأوى العجزة (منظمة التحرير). هاني الحسن شبه معتزل أو معزول. قاعد ساكت. ياسر عبد ربه ناشط. مشاغب. لكن ليس من المبشرين بجنة السلطة. فهو ليس من «فتح» الصحابة والرفاقية.

أبرز المرشحين من الحرس الجديد (مروان البرغوثي. محمد دحلان. جبريل الرجوب) على أبواب الخمسين من العمر، أو تجاوزوها بسنين قليلة. كلهم من عرب النكبة. ليسوا من عرب المنفى. كلهم يتقنون العبرية. أمضوا أعواما في السجون الإسرائيلية. باتوا أكثر احتكاكا بالعقلية والأساليب الإسرائيلية. كلهم، بما فيهم البرغوثي، مع المفاوضة. مع التسوية السياسية. كلهم، باستثناء البرغوثي، ضد حماس. ضد أَسْلَمَةِ المقاومة والسياسة.

دحلان والرجوب ضابطان مخابراتيان متقاعدان (كانا يترأسان جهاز الأمن الوقائي في غزة والضفة). أبعدت إسرائيل دحلان. خرج من السجن. لجأ إلى عرفات في تونس (1986). تبناه الختيار. قرّبه (كل رجال الأمن أبنائي). عاد معه بعد أوسلو (1994). أَقْطَعَهُ أمن غزة. عندما سجن شارون عرفات في رام الله، انحاز دحلان إلى عباس. رأي فيه تفانياً في الرهان على المفاوضة.

دحلان رجل أمن. من مخيم خان يونس في غزة. كان وما زال من صميم «فتح» منذ المراهقة. مرن. مرح. هادئ. جذاب. يعرف كيف يكسب الحلفاء. ويخسر الأعداء (حلق يوما لحية محمود الزهار). أقاله عرفات. فبات وزير عباس. ثم مستشاره الأمني الأول. هو «رجل أميركا الأول» بين المرشحين للخلافة. إسرائيل تعتبره صديقا. لكنه «عكروت» ذكي وماهر، كما وصفه ناحوم برنيع في حوار معه في معاريف (2/10/2009). يرد دحلان ضاحكا: «لو لم أكن عكروتا، لَمِتُّ منذ مدة طويلة. هذا العالم بحاجة إلى عكاريت».

أيضا، الرجوب رجل أمن متقاعد. رجل رياضة وتجارة، أكثر مما هو رجل سياسة مرفوض من الساسة. يرعى رياضة الضفة. لديه فريق كرة نسائي. شارون اتهمه باختراق الشركات الإسرائيلية. الرجوب يقول إنه اشترى أسهما فيها لحساب السلطة الفلسطينية.

الرجوب أيضا من «أصدقاء» أميركا وإسرائيل. استقال الرجوب من عباس باكرا. عندما سرحه عرفات حاول التمرد. دحلان حزين على مصير عباس. يوبخ الإسرائيليين: «جاء أبو مازن. فتركتموه بلا ريش. فماذا ستفعلون بالآتي بعده؟ إذا لم يتم الحل خلال سنتين. ستجدون طالبان هنا». عن حل إشكالية الاستيطان: «يعيش المستوطنون تحت السيادة الفلسطينية لمن يرغب. من يرفض فليرحل».

اعتراض الحرس القديم والجديد على مروان البرغوثي، لكونه سجينا. في رؤيتي الشخصية، كون البرغوثي «رئيسا أسيرا» يخدم القضية الفلسطينية، كما خدم مانديلا من سجنه قضية بلده. البرغوثي رجل ذو ماضٍ. قاد انتفاضتين (1987/2000). إذا كان لي أن ألخص موقفه السياسي، فأقول إنه مع التسوية السياسية. مع المفاوضة. مع الدولة. مع النضال السياسي (مقاومة سلمية). مع المصالحة. مع حكومة وحدة وطنية.

البرغوثي مقبول لدى حماس. إذا تمكنت حماس من إطلاق سراحه في صفقة الأسرى، فسيبقى أسيرا مدينا لها. تحريره سيعجل برحيل عباس. قوته في شعبيته الكبيرة. في نزاهته التي لم يلوثها الفساد. سمح عباس بانتخابه عضوا في لجنة فتح المركزية. لكن أقصى أنصاره.

أتمهل قليلا عند مرشح آخر. سلام فياض من الجيل الفلسطيني الثاني (58 سنة). قوته في نزاهته. حكومته كافحت الفساد. ضبطت الإنفاق. نشرت الأمن. ضعفه في كونه، كياسر عبد ربه، غير منتسب لـ«فتح» التي تناصبه العداء. اقترح فياض التعجيل بإقامة الدولة الفلسطينية، من خلال كسب الشرعية الدولية (الأمم المتحدة). فتلقى من نيتنياهو إنذارا بإلغاء أوسلو. تلقي ضربة على اليد من أوروبا: «الوقت لم يحن بعد لإقامة الدولة». إدارة أوباما هددته باستخدام الفيتو. تراجع المسكين فياض. قال إن الدولة تقوم بعد الاستقلال. لخص دوره بالاكتفاء «ببناء المؤسسات وترسيخ الأمن».

أخيرا، أعود للخليفة عباس، لأقول إن مشكلته باتت نفسية أكثر مما هي سياسية. شعر أن رهانه على ورقة المفاوضة وحدها كان خطأ. عباس خاصم عرفات. ألغى المقاومة. كسب الرئاسة. خسر الانتخابات التشريعية. خسر غزة. فاوض. فتسارع الاستيطان. أجّل عرض تقرير غولدستون على مجلس الأمن. فخسر شعبيته. حماس رفضت مصالحته. بشار الأسد رفض استقباله. تراجع عباس. قرر عرض التقرير على «الشرطي الدولي». فخسر «شعبيته» لدى الإسرائيليين، كرجل سلام. عباس في إحباط سياسي. وحيرة نفسية: استعاد شعبيته بتلويحه بالاستقالة. سيعود فيخسرها إذا سحب التهديد. أنصاره يبحثون عن حل لمأساته. سيؤجلون الانتخابات الرئاسية والتشريعية، منتهزين فرصة تلكؤ حماس في المصالحة، ورفضها إجراء الانتخابات في موعدها. حماس تخشى خسارتها غزة التي فقدت فيها شعبيتها. التأجيل يعني عمليا التمديد في عمر الخلافة العباسية.

إذا أصر عباس على الاعتزال، فهناك نظام عربي معرض للانهيار. قد تنهار السلطة الفلسطينية، إذا لم تعثر أميركا وأوروبا على بديل مناسب، يقبل بالانتحار على مائدة المفاوضات. أنصار عباس يهددون بالانسحاب معه. في هذه الحالة، تهدد إسرائيل بإلغاء أوسلو. لكن العودة لاحتلال كامل الضفة، سيحملها عبء إعاشة السكان المدنيين المحتلين.

تبدو حماس، إلى الآن، هي الكاسبة. لكنها هي أيضا تعاني من الانقسام. حماس الضفة مع المصالحة. حماس غزة مع مفاوضة إسرائيل على هدنة طويلة.

حكومة نيتنياهو ترحب: الهدنة أفضل من الدولة. الهدنة ستسمح لها باستئناف الاستيطان، بلا تقيد بحدود أو بحقوق. حماس سورية وإيران مع المقاومة.

حضر سعيد جليلي مسؤول أمن إيران إلى دمشق. اجتمع بممثلي حزب الله وجبهات «الممانعة». يريد منها أن تضرب إسرائيل، إذا ضربت إسرائيل إيران. عندئذ، تصبح الإستراتيجية الدفاعية في لبنان (تنسيق ميليشيا حزب الله مع الجيش اللبناني) موضوعا مطروحا للمساءلة، للتأكد من «لبنانية» سلاح حزب الله. السؤال بسيط للغاية: هل يضرب حزب الله إسرائيل، إذا ضربت إسرائيل إيران؟ هل يورط لبنان، حكومة وشعبا وأرضا، بحرب من أجل إيران؟