طغيان الأغلبية والمسألة السويسرية

TT

عندما تهاوى برجا التجارة في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 ومعهما أفكار كثيرة بامتداد الكون، وبرز افتراض «صراع الحضارات»، نشأت فجوة كبيرة بين عالم كان قد تغير بالفعل في اتجاه التعايش الإنساني، تبدى في انتقال السلع والأفكار ومعهما البشر، وعالم آخر يسوده الخوف والتوجس من الآخر. وبشكل من الأشكال كان العالم يعيش تناقضا حادا بين آليات اقتصادية وتكنولوجية تضغط بشدة من أجل مزيد من التفاعل والاتصال بين الناس؛ وحالة مرهقة من النفور والرفض للنتائج الثقافية والحضارية الناجمة عما حدث. وعندما جاءت الولايات المتحدة بجيوشها إلى العراق وأفغانستان، زعم الرئيس الأميركي بوش، ومعه قيادات العالم الغربي، أنه يريد تغيير أفكار العالم الإسلامي من حالته الراهنة للحالة الديمقراطية. وبعد أن فشلت التجربة، وسقط بوش وخرج من البيت الأبيض، وجاء باراك أوباما، ورغم رحلته إلى القاهرة لكي يرسل رسالة إلى العالم الإسلامي للحوار والتحاب، فإن التناقض بقي على حاله، وظهر أنه سوف يكون له مظاهر وأشكال متعددة قد لا تبدو في حد ذاتها خطيرة، ولكنها منذرة بشدة لأنها تعمق من التناقض وتجعله متفجرا بصراعات لا يعرف أحد متى تأتي، أو متى تنتهي.

ما كان مدهشا بحق أنه سرعان ما ظهر أن «الديمقراطية» و«الليبرالية»، وكلتاهما قامت على أسس للحرية والمساواة والتفاهم والتوافق بين بشر تعددت اختلافاتهم وتنوعت عقائدهم، أصبحتا جزءا من عملية تعميق التناقض والفجوة وحتى الافتراق بين الناس. وعندما ظهر ما عرف بأزمة «الرسوم الكارتونية» في الدنمارك تمت ترجمة المسألة في تناقض حاد بين «إهانة» الأديان والمعتقدات، و«حرية الرأي والتعبير». لاحظ هنا أن الأزمة في كل الأحوال تضمنت بشرا مهاجرين، أو انتقلوا وعاشوا وامتزجوا بأهل البلاد ذات الثقافة المختلفة، وفى الأوقات العادية كان هناك اتصال حتمه العمل، ولكن كان هناك انفصال فرضته الثقافة. وعندما جاء القرار الشعبي السويسري عبر استفتاء بمنع بناء المآذن عكس أولا أزمة داخلية بين السويسريين، بصرف النظر عن أن الحكومة وغالبية المجلس التشريعي والنخبة السياسية في الإعلام والمجتمع المدني وقفوا ضد القانون باعتباره انتهاكا للدستور السويسري ولحرية الديانات والتسامح الذي تتمسك به الدولة. وثانيا المأزق «الديمقراطي» الذي عاش فيه السويسريون، حيث . هذا المبدأ أصيل في الفكرة الليبرالية حينما تمتد فكرة «الطغيان» من الفرد الحاكم، أو الأقلية الحاكمة، إلى الجموع والأغلبية، فتمس واحدا من الحقوق الأساسية للإنسان أو تفرض عليه ما لا يؤمن به.

هذا الخوف من طغيان الأغلبية كان وراء تدني رأي أفلاطون في النظام الديمقراطي، وربما كان دافعا لتشرشل ليعتبر أن النظام الديمقراطي هو أسوأ النظم السياسية، كما كان وراء ظهور الكثير من الفلاسفة والحكماء والساسة الذين قبلوا الديمقراطية على مضض لأن كل الخيارات الأخرى أكثر سوءا. وعلى الأرجح فإن تفسير ذلك الموقف لا يمكن أن يكون باعتباره رفضا لحكم الأغلبية، بقدر ما هو تعبير عن تشكك في الطريقة التي يتم بها تكوين الأغلبية وطريقتها في إدارة الشؤون العامة، أي «السياسة»، التي تعد في النهاية الحكمة التي تستخدمها العقول لتقدير الاختيارات والاحتمالات المختلفة، واختيار الأقل تكلفة والأعلى قيمة، والمحققة للقيم العامة، أو القيم التي تشغل بال الأغلبية من المجتمع. وبالطبع فإنه لا يمكن التوصل لتلك الحكمة ما لم تتوافر «المعرفة» وامتلاك «الحصافة» في عملية التفكير والتفسير فيما هو قائم ومعلوم، وأخيرا القدرة على «التدبر» وتقليب الأمور على مختلف وجوهها.

وهنا تظهر المعضلة الأساسية، وهي أن ما يطلق عليه العقل الجمعي دائما ما يكون قابلا للتلاعب، بما يجعله لا ينطق بالحكمة، وإنما يقول بالطغيان الناجم عن تعصب مطلق لأغلبية عرقية أو دينية أو مذهبية ضد أقليات أخرى، والأخطر من ذلك فإنه قابل للتلاعب من قبل هؤلاء «المحرضين» القادرين على استثارة «الجماهير» أو«الشعب». وهنا قد يكون من المفيد تذكر ما قاله أحد قادة الثورة الأميركية من أنه «ليس على استعداد لاستبدال طاغية واحد، هو ملك إنجلترا، بثلاثمائة طاغية هم أعضاء الكونغرس الأميركي»، وما نصت عليه الفقرة الأخيرة من القانون الذي كتبه جيفرسون عام 1779 لحماية حرية العبادة بقولها إن كل من ينقض هذا القانون، أو يلغيه، أو يحد منه، إنما ينتهك حقوقا للإنسان طبيعية. وكان ذلك تحديدا هو ما جرت مخالفته في سويسرا، حيث إن أحد التقاليد المؤسسية الفريدة التي أرساها النظام السياسي والقانوني فيها هو إمكانية أن يتقدم ائتلاف من قطاعات الرأي العام الداخلي بطلب لإجراء تعديل في الدستور الفيدرالي، من خلال ما يسمى بـ«المبادرة الشعبية»، شريطة أن تجمع مائة ألف توقيع. وبعد ذلك، تطرح المبادرة على المؤسسات الدستورية الفيدرالية للحصول على الموافقة وإحالة المبادرة للاستفتاء الشعبي، وهو ما حدث مؤخرا مع «المبادرة الشعبية لحظر المآذن». وقد صوت السويسريون في استفتاء شعبي في 29 نوفمبر المنصرم على تلك المبادرة، حيث أتى التصويت بأغلبية مزدوجة، إذ شاركت أغلبية الشعب (52%) في الاستفتاء، صوتت أغلبيتهم (57.5%) بالموافقة، وهو ما يجعله قرارا نهائيا لا رجعة فيه.

وحتى تبقى الأمور في حدودها فإن ما حدث هنا لم يكن في مواجهة زحف إسلامي لبناء المآذن، حيث توجد منها أربعة فقط في سويسرا، ولا يعني القانون الجديد إزالتها، كما أن القانون من ناحية أخرى لا يمس بناء المساجد، أو ممارسة المعتقدات الإسلامية. ومع ذلك فإن القانون، واستناده إلى استفتاء شعبي، يمثل ردة لا شك فيها في التعامل مع المسلمين، وهناك كثرة من الأفكار لطرح المسألة برمتها على مؤسسات حقوقية قبل أن تصير تقليدا في بلدان غربية مختلفة. ولكن كل هذه الجهود المتوقعة لا ينبغي لها أن تلهي عن أصل المسألة التي مثلت تراجعا إضافيا في علاقة المسلمين مع أقرانهم من المواطنين.

ومن دون الدخول في كثير من التفاصيل، فإن هناك وجها للمسألة يبدو واضحا للكافة، وهو أن السويسريين مارسوا طغيان الأغلبية بامتياز على حق ظاهر من حقوق الإنسان، وهي مسألة أظن أن المحاكم الأوروبية لن تتركها تمر بسلام. وعندما مارست «الأغلبية» في النمسا طغيانها ذات مرة بانتخاب الأغلبية من حزب «فاشي»، فإن الدول الأوروبية لم تتردد في عزل النمسا حتى تم استبعاد الحزب بوسائل سياسية ودبلوماسية. ولكن المسألة أيضا لها وجهان آخران: واحد منهما يمس الأقليات الإسلامية في أوروبا عامة وسويسرا خاصة، حيث تظهر هذه الأقليات منعزلة عن مجتمعاتها، وتظهر أحيانا في أشكال «مخيفة» مثل ارتداء الرجال للملابس الباكستانية والأفغانية حيث السمعة الإرهابية العميقة الناتجة عن تنظيم القاعدة وجماعة طالبان، أو ارتداء النساء للنقاب في مجتمعات مدنية مفتوحة تجد صعوبة في فهم وضع الأقنعة على الوجوه في مجتمع حديث. والآخر يمس البلدان الإسلامية كلها، فلا شك أن مصداقيتها في التعامل مع قضية المآذن في سويسرا سوف تزداد كثيرا عندما يمنح الشيعة أشقاءهم من السنة الحق في بناء المساجد، والعكس أيضا صحيح عندما تكون الأغلبية من السنة؛ وعندما يعطي كل منهما الأقليات من عقائد ومذاهب مختلفة حقوق ممارسة الشعائر وبناء الكنائس والمعابد.

وهكذا تقف القضية كلها على أقدامها مرة أخرى، ولا يمكن مكافحة الرسوم الكارتونية وازدراء الأديان وطغيان الأغلبية على إقامة المآذن، وخلق مناخ عالمي يحافظ على حرية العقيدة والمعتقدات الدينية واحترامها، إلا في ظل احترام القانون العالمي لحقوق الإنسان. فمن المدهش أن يكون للدنيا كلها قوانين للتجارة والتبادل التجاري، والاستثمار وتحكيم المنازعات الاقتصادية، والسفر وهبوط وصعود الطائرات، وغيرها، وهي قوانين يتم الالتزام الكامل بها، ولا توجد قوانين وطريقة يتم بها احترام حقوق الناس في اعتقاد ما يشاءون، والصلاة حيث يرغبون!.