ماذا وراء عملية أمينتو حيدر؟

TT

كيفما آلت الأمور لدى نشر هذا المقال، فإن التوتر الذي فجرته السيدة أمينتو حيدر بإضرابها عن الطعام ورفضها للعروض المختلفة التي قدمت لها، والتشدد الذي أعلن في المغرب حيال الانفصاليين في الداخل، يعطيان مادة للتأمل في الفصل الجديد الذي تعرفه الأزمة المندلعة منذ 34 عاما أي من تحرير الصحراء المغربية.

فجرت الأزمة سيدة في الرابعة والأربعين من عمرها، أم لولدين، تتولى منذ أعوام التحرك في الخارج لترويج دعاية البوليزاريو، وكان يُسمح لها قبل الآن أن تدخل وتخرج في لا مبالاة باردة.

وكانت مناسبة تفجير الأزمة الحالية هي أن السيدة أمينتو بيتت أن تخلق في مطار العيون لدى عودتها وضعا شاذا يثير صعوبات مع الشرطة. وصحبت معها طاقما إسبانيا لتصوير المشهد. وأبت أن تملأ استمارة الدخول في المطار بشكل سوي، فكتبت في خانة الجنسية بدلا من المغرب عبارة «الصحراء الغربية». وقد رفضت سلطات المطار هذا التصرف وطلبت من الشركة التي جاءت بها من كانارياس أن ترجعها من حيث أتت. وبعد مراودة طويلة بحضور أفراد عائلتها استمرت حتى الرابعة فجرا سحب منها جواز السفر.

وفي مطار لانثاروطي بكنارياس أعلنت إضرابها عن الطعام وهي متيقنة من أن مبادرتها ستخلق صدى لدى الصحافة الإسبانية. ونظرا إلى حرفيتها الدعائية نالت مؤخرا جائزة منحتها إياها مؤسسة «روبير كينيدي». ونشرت الصحف المغربية صورة لها بمناسبة الفوز، وإلى جانبها سفير الجزائر في الأمم المتحدة، علما بأن الدبلوماسية الجزائرية هي عراب القادة البوليزاريين في الخارج، كما تبين مؤخرا حينما ضُبط وطُرد من بيروت مناضل شبابي بوليزاري نزل في العاصمة اللبنانية لحضور اجتماع شبابي عربي بجواز جزائري.

وقد أثار حادث أمينتو دفعة واحدة كل التوابل المصاحبة لملف الصحراء. الجزائر وإسبانيا والأمم المتحدة. ولكن أبرز العوامل التي ظهرت هي التوتر الخفيف الذي ران على سطح العلاقات المغربية الإسبانية، بعد أن رفض المغرب استقبال الناشطة البوليزارية المعتصمة في مطار لانثاروطي.

فبعد عامين من ضربة «الأمر الواقع» الذي أحدثتها إسبانيا بزيارة الملك خوان كارلوس لمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، جاء ترحيل أمينتو حيدر إلى كنارياس ليلقى في يد الدبلوماسية الإسبانية ببطاطا ساخنة لم تُطِق أن تمسك بها وحارت أين تلقيها. ولكن مع الفارق وهو أن الأمر الواقع الجديد لم يكن المغرب هو الذي سعى إلى خلقه.

سبقت عملية أمينتو مناورات دبلوماسية أخرى قادتها الجزائر كانت تهدف إلى إجبار الأمم المتحدة على إدراج مسألة حقوق الإنسان ضمن مهام المينورسو، وهي الجهاز الأممي المشرف الآن على مراقبة وقف إطلاق النار في الصحراء، منذ أن توقفت عملية إحصاء الناخبين التي كانت سارية في أفق إعداد الاستفتاء، الذي تم العدول عنه.

وكان هذا هو الجواب على مطالبة المغرب للأمم بإجبار الجزائر على السماح بإحصاء العدد الحقيقي للاجئين في تيندوف ممن هم حقا منحدرون من الصحراء. وتتذرع السلطات الجزائرية بشتى الأعذار لاستبعاد ذلك منذ سنوات عديدة. فعدد الموجودين في تيندوف منفوخ فيه، وحتى هذا الأسبوع كتب خافيير بارديم، السينمائي الإسباني العاطف على البوليزاريو أن عدد سكان المخيمات يبلغ مئات الآلاف. وهذا هو ما يقوله له مضيفوه من قادة البوليزاريو. أما الواقع فهو دون ذلك. علما بأنه لا يمر أسبوع دون أن يلتحق بالمغرب ما يتراوح بين 12 و15 ممن يغامرون بالإفلات من المراقبة المزدوجة لكل من البوليزاريو والجزائر.

وبقدر ما هي محرجة للجزائر عملية إحصاء ساكنة تيندوف والتعرف على من يرغب منهم في العودة إلى بلده، بحضور ممثل للأمم المتحدة وعلى انفراد، فإن إضافة مسألة حقوق الإنسان إلى صلاحيات المينورسو غير مريحة للمغرب بسبب ما هو متوقع من استغلال عبثي للآليات الأممية لأغراض دعائية محضة. وعلى هذا المستوى يمكن القول: هذه بتلك.

على أن حادث لانثاروطي قد أنتج توعكا على المستوى المغربي الإسباني لم يكن محسوبا. فقد استاءت مدريد من أن يُلقى إلى حديقتها بهذه الفتيلة المشتعلة، وأن يمتنع المغرب عن استقبال المضربة عن الطعام، التي تعاني صحة هشة. ففي دولة قانون حقا كما هي حال إسبانيا لا يسع الحكومة، مهما كانت متانة موقفها، أن تصم عن النداءات المنبعثة من المجتمع المدني، مثل الفنانين والأدباء وبقايا اليسار الماركسي، وهم الذين منحوا الحزب الاشتراكي العمالي مليون صوت في 2004. وإلى جانب هؤلاء انضمت أحزاب يسارية صغرى وأخرى إقليمية، في وقت تجد صعوبة في تمرير الميزانية في البرلمان.

إن متهمي حكومة ثاباتيرو بالتواطؤ مع المغرب في قضية الصحراء لهم صدى واسع في الرأي العام الإسباني، بسبب النقمة على المغرب، لأسباب تبدأ بالشكوى من أن الطماطم المغربية جيدة وتهدد نظيرتها الإسبانية، وتُختم بمثل ما دعت إليه منشقة عن الحزب الاشتراكي خرجت بفكرة مبتكرة وهي دعوة الاتحاد الأوربي إلى التراجع في منح المغرب صفة الشراكة المتقدمة ما لم يصرح بتخليه عن المطالبة بسبتة ومليلية. ويضاف إلى هذا كله التجنيد الدائم للصحافة الإسبانية التي تجد في الموضوع المغربي منجما ثريا لممارسة الإثارة والاستعداء والتجني. والمغرب هو الموضوع الوحيد الذي تعالجه الصحافة الإسبانية دون مهنية ومراعاة للأخلاقيات، وهناك توجيه واحد وهو أن الجمهور يريد هذا.

غير أنه يمكن القول إن التوتر الحالي بين مدريد والرباط سيمر حتما وتعود المياه إلى مجاريها، مثل ما وقع لدى أزمة أخطر وهي المواجهة الخاطفة بشأن جزيرة تاورة (المعدنوس/ليلى)، وكما وقع بعد زيارة سبتة ومليلية منذ عامين. الأزمات مع إسبانيا تسوَّى دائما بكيفية متحضرة. وقد لوحظ أنه بقدر ما كانت الحكومة الإسبانية مرنة في التعامل مع مسألة أمينتو، حيث عرضت عليها جواز سفر إسباني، ثم السعي لدى المغرب بالحصول لها على جواز جديد، فإن حزب المعارضة الكبير (الشعبي) بدوره كان له موقف متساهل مع الحكومة ولامها فقط على عدم احترام القانون في قبول أمينتو بلا أوراق. وكان موقف راخوي زعيم الحزب وموراغاس مدير ديوانه المكلف سابقا بالعلاقات الخارجية، هو انتظار وقوع انفراج في الوضع ينتهي بإنهاء أمينتو للإضراب عن الطعام.

وإني أتساءل عما عساها تكون النتيجة لو أنه وقع ترحيل أمينتو حيدر بدلا من لانثاروطي إلى قرب الجدار الرملي قبالة تيندوف، حيث لا كاميرا ترى ولا أحزاب صغيرة تمارس الابتزاز على حكومة ثاباتيرو. إن إسبانيا مقبلة على رئاسة الاتحاد الأوروبي في سداسية أعدّت لها بحرص منذ نحو عام، بما في ذلك شأن بنود تهم المغرب. ربما كان يقتضي الأمر في هذه المرة أيضا مثل ما هو مطروح على الدبلوماسية المغربية دائما أن تعقد لجنة أزمة قبل اتخاذ القرار بشأن أمينتو لقراءة كل الحسابات وتحضير جواب لكل سؤال. الموضوع في نظري ليس هو أمينتو، ولا إسبانيا، ولكن هو توسيع صلاحيات المينورسو لتتناول مسألة حقوق الإنسان، في الوقت الذي فشل فيه المغرب في جر الأمم المتحدة إلى إجراء إحصاء اللاجئين بتيندوف والاستفسار منهم عن رغبتهم في البقاء هناك أو العودة إلى ديارهم. وأما التسوية السياسية والتفاوض الحقيقي بشأنها فستنتظر طويلا، وسيأتي وقتها حينما تنضج الجزائر لذلك.