استراتيجية معتدلة

TT

نجح الرئيس أوباما في كسب مزيد من الوقت في ما يخص أفغانستان وأثبت التزامه بوعده باتباع سياسات لا تنحاز إلى نهج فلسفي بعينه. وفي الوقت ذاته، أحدث انشقاقا داخل حزبه وتسبب في انحسار حماس حلفائه الطبيعيين تجاهه، بينما لم يكسب ثقة دائمة من قِبل خصومه المحليين.

من خلال هذه الإجراءات تتسم استراتيجية أوباما القائمة على فكرة تعزيز القوات ثم تقليصها بقدر كبير من الشجاعة والخطورة السياسية، وهي وجهة نظر تتعارض مع تصوير البعض للخطاب الذي ألقاه أوباما، الثلاثاء، باعتباره محاولة لإرضاء الأطراف كافة. ومع أن الخطاب بالفعل عكس وجود حسابات وراءه، فإنها تتعلق بالفوز بالتأييد لهذه السياسة، لا بتحقيق مكاسب انتخابية. في ما يتعلق بتعزيز الفرص الانتخابية أمام أعضاء الكونغرس من الديمقراطيين العام المقبل، فإن الخطاب جاء فاشلا تماما.

لقد حاول أوباما التوصل إلى حل وسط عبر طرح استراتيجية معتدلة: لا تميل على نحو مفرط باتجاه أي من معسكري الصقور أو الحمائم، وإنما سياسة صائبة فحسب. وقد عمد أوباما إلى طمأنة الحمائم بإعلانه أنه لا رغبة لديه في تنفيذ «تصعيد دراماتيكي وإلى أجل غير مسمى لحربنا»، في الوقت الذي شدد فيه أمام الصقور على أن «أمننا يجابه خطرا في أفغانستان وباكستان». وأكد أوباما على أن السبيل الوحيد للإسراع من انسحابنا من أفغانستان يكمن في الإسراع من إرسالنا 30.000 جندي إضافي الآن «للتصدي للزخم الذي تحظى به (طالبان)».

جدير بالذكر أنه خلال سنوات حرب فيتنام، تحدث الكثيرون عن فكرة «الفوز أو الخروج». والآن، يمكن وصف خطة أوباما بأنها تقوم على مبدأ «وقف الهزيمة من أجل الانسحاب».

إلا أن أولئك الساعين للحلول الوسطى يعانون من موقف بالغ الصعوبة اليوم، وينطبق هذا القول على نحو خاص على السياسة الخارجية، التي تعرضت لدرجة بالغة من التسييس على مدار سنوات رئاسة جورج دبليو بوش. من ناحيته، تحدث أوباما بحنين عن وضع نهاية لـ«الضغينة والريبة والميول الحزبية التي سممت في الفترة الأخيرة خطابنا الوطني». إلا أنه في ضوء ردود الأفعال التي أثارها خطابه، لا نملك سوى القول: «حظا طيبا». حتى الديمقراطيين الذين أيدوا من قبل التوجهات القائمة على التدخل في إطار السياسة الخارجية خبَت حماستهم لهذه التوجهات بسبب سياسات بوش. وقد كان رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب وعضو الحزب الديمقراطي هوارد بيرمان، صادقا عندما قال في تصريح له لإصدار «بوليتيكو» قبل إلقاء أوباما خطابه: «لم أعد على نفس المستوى من الاستعداد للمسارعة بتأييد الحرب الذي اعتدته من قبل».

كان ما ذكره أوباما في خطابه في «ويست بوينت» عن أفغانستان سيثير الجدل لو أنه صدر قبل الاحتلال الطويل للعراق. لكن الآن، أصبح نصف أعضاء حزبه أو أكثر يأملون في أن يقلص من الحرب الأفغانية. ومن غير المحتمل إجراء تصويت حول تمويل الزيادة الجديدة في أعداد القوات في أفغانستان قبل الربيع لإدراك القيادات الديمقراطية، خصوصا في مجلس النواب، حجم المعارضة القوية داخل صفوفهم.

على الجانب الآخر، جاءت استجابة الحزب الجمهوري فاترة، ففي الوقت الذي رحب فيه الكثير من الجمهوريين بتعزيز القوات، فإنهم سرعان من تحولوا إلى الهجوم، خصوصا على إصرار أوباما على أن بمقدورنا الشروع في سحب القوات بحلول يوليو (تموز) 2011.

في هذا الصدد، أعرب السناتور جون ماكين في تصريحات لقناة «سي بي إس»، عن اعتقاده بأنه «إذا أخبرت عدوك أنك سترحل، فإن ذلك يزيد جرأة الأعداء ويثبط الأصدقاء». وجاء هذا التصريح ليعكس نقدا شائعا في أوساط الجمهوريين لاستراتيجية أوباما الجديدة. وأبدى آخرون ضيقهم للانتقادات التي وجهها أوباما إلى بوش لإهماله أفغانستان لصالح العراق.

الملاحظ هنا أن جهود أوباما الرامية إلى إقناع المتشككين، خصوصا داخل حزبه، من خلال إقرار حد زمني أقصى للبقاء في أفغانستان ومحاولته الفصل بين أفغانستان والعراق، لم تثمر سوى تعرضه لانتقادات من قِبل الحزب الآخر. وبذلك، يتكبد أوباما خسائر داخل معسكري الحمائم والصقور، بينما لا تتوافر مساحة كبيرة للبوم الساعي وراء حكمة الحلول الوسطى.

بيد أن المفارقة تكمن في أنه من خلال امتصاصه كل هذا الألم السياسي، سينجح أوباما في تحقيق هدفه قصير الأمد المتعلق بحشد تأييد كافٍ للإبقاء على الحرب في أفغانستان دائرة ومنح خطوة تعزيز القوات التي اتخذها فرصة لإثبات نجاحها. وإذا كان محقا في قوله إن مثل هذا التقدم يمكن إحرازه بسرعة وإن القوات بعد ذلك ستشرع في الانسحاب، ستنحسر المعارضة السياسية أمامه. أما إذا أخفقت سياسته أو أصيبت بالشلل، فستنفتح في وجهه أبواب الجحيم.

من الأمور التي تخدم أوباما أن الديمقراطيين منقسمون إلى ثلاثة فرق، لا فريقين: ما بين عدد ضئيل من الصقور ممن يتفقون مع قراره، وعدد كبير من الحمائم ممن يعارضون القرار، ومجموعة كبيرة يساورها عدم ارتياح حيال اختيار أوباما، لكنها تحترم أسباب وكيفية اتخاذه له. «يا إلهي! كم أتمنى أن يكون محقا!» كانت الكلمات هي التي سمعتها تخرج من أفواه الكثير من الديمقراطيين، الذين أبدوا مزيجا من الثقة والأمل والشك. وتدرك هذه المجموعة من الديمقراطيين أن مثل هذه السياسات يجري التعامل معها دوما باعتبارها مخطئة إلى أن تُثبِت نجاحها. ويأملون في أن يكون أوباما مدركا لحقيقة ما يفعله. الآن، هم على استعداد لمنحه فرصة لمدة عام ونصف.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»