هل كل كريم طروب؟!

TT

من قراءاتي لتراثنا العربي المجيد هذه الرواية:

يحكى أن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان استضاف عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأكرمه وأنزله في داره، وأرق معاوية ذات ليلة وقال لخادمه: اذهب وانظر مَن عند عبد الله بن جعفر وأخبره أنني قادم. فذهب وأخبره، فصرف عبد الله كل من كان عنده، فلما دخل معاوية لم يجد عنده أحدا، وأخذ يسأله عن مجالس من كانوا عنده حتى وصل إلى المجلس الأخير، فقال له عبد الله: هذا مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين، فرد عليه معاوية: إن أذني عليلة فمُرْه أن يرجع إلى مجلسه، فدخل (بديح) المغنّي، فقال له معاوية: داوِ أذني من علّتها، فتناول العود وغنى:

وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ

وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أَيُّهَا الرَّجُلُ؟!

فحرّك عبد الله رأسه، فسأله معاوية: لم حركت رأسك يا ابن جعفر؟!، فقال: أريحيّة أجدها يا أمير المؤمنين، لو لقيت عندها لأبليت، ولو سئلت لأعطيت.

وكان معاوية قد خضب شعره، فقال ابن جعفر لبديح: غنِّ غير هذا ـ وكان لمعاوية جارية أعز جواريه عليه، وكانت تتولى خضابه ـ ففطن بديح الذكي الخبيث لذلك فغنى:

أَلَيْسَ عِنْدَكَ شُكْرٌ لِلَّتِي جَعَلَتْ

مَا ابْيَضَّ مِنْ قَادِمَاتِ الرَّأْسِ كَالْحمَمِ

وَجَدَّدَتْ مِنْكَ مَا قَدْ كَانَ أَخَلَقَهُ

صَرْفُ الزَّمَانِ وَطُولُ الدَّهْرِ وَالقِدَمِ

فطرب معاوية طربا شديدا، وجعل يحرك رجله ـ أي أخذ (يرفس) ـ فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين، إنك سألتني عن تحريك رأسي فأجبتك وأخبرتك، وأنا أسألك عن تحريك رجلك، فقال: كل كريم طروب.

وبما أننا بصدد الحديث عن معاوية بن أبي سفيان، فقد دخل عليه يوما (شريك بن الأعور)، وكان شريك دميما، فقال له معاوية مازحا: إنك لدميم، والجميل خير من الدميم، وإنك لشريك، وما لله شريك، وإن أباك لأعور، والصحيح خير من الأعور، فكيف سُدْتَ قومك؟!

فأجابه شريك بثقة: إنك معاوية، وما معاوية إلاّ كلبة عَوَتْ فاسْتَعْوَت الكلاب، وإنك لابن صخر، والسهل خير من الصخر، وإنك لابن حرب، والسلام خير من الحرب، وإنك لابن أُمَيَّة، وما أُمَيَّةُ إلاّ أَمَة صغرت، فكيف صرت أمير المؤمنين؟!

فضحك معاوية حتى استلقى على قفاه، ثم استعدل وقال له: لقد أحسنت والله. وأمر له بألف دينار وخلع عليه خلعه.

والغريب أنه لم يقتله أو يجلده أو حتى يطرده من مجلسه!

فهل كان لدى القوم في ذلك الوقت هامش من الحريّة؟!

هل كانت روحهم رياضية؟!

عن نفسي أقول: رغم أنني لست بكريم فإنني طروب جدا، كما أن روحي ليست برياضية على الإطلاق، فنفسي أجاركم الله (على طرف خشمي)، فيا ويل ويا سواد ليل الذبابة التي تقع عليه، فكلّه عندي إلاّ خشمي العزيز، فالعالم بأسره بكوم، وهو بكوم.

[email protected]