مطعم النادل نجما

TT

كان الواصلون إلى نيويورك يتحاشون الطريق المؤدية إلى مانهاتن من خلال حي هارلم. كل بؤس العالم كان هناك. جميع مشردي الأرض. جميع الذين لا أمل لهم بأي شيء ولذلك لا يتكبدون عناء الأمل. لقطاء كثيرون وآباء فقراء لا يقوون على احتمال عناء أبنائهم فيتركونهم ويهربون إلى البعيد. كانت هارلم جزءا من أعالي مانهاتن وفي الحقيقة جزيرة معزولة باللون والفقر والخوف واليأس والجريمة والانفلات الخلقي. يصف كاتب روسي ما أدت إليه الحرب العالمية فيقول إن الأم كانت مع رجل في غرفة والابنة في غرفة مجاورة مع رجل آخر.

دمار نفسي ومعنوي مطلق. من قرأ جيمس بالدوين في الستينات والسبعينات ظن أنه لن يشاهد بؤسا مماثلا على وجه الأرض. لكن هذا البؤس كان هنا، وعلى بعد بضعة شوارع وجادات من نيويورك الرافلة بالبذخ بالمال بمظاهر الرأسمالية بالسيارات المجهزة بالهواتف والتلفزيون ومحملة بالحراس والمسدسات. في هذا الجانب كان النيويوركيون يتبضعون الجواهر والماسات الخضراء من عند تيفاني ومعاطف الفراء من عند ساكس. وطويلا طويلا ظلت هارلم على ما هي.

سألت السائق أي طريق سنتبع إلى المدينة، فقال جسر كوينز نحو الشارع 59. قلت له، بل عبر هارلم، أريد أن أشهد هل حقا تغيرت وتطورت إلى هذا الحد، وأصبحت الآن مسكن بيل كلينتون، الذي فاز بأصوات الفقراء والمعذبين. لكنها كانت تمطر قططا وأرانب. ولم يكن من الممكن رؤية شيء سوى اللوحات التي تدلك إلى الاتجاهات. الألوف منها. وكنت ترى المباني الأجرية الحمراء وأضواءها الناعسة وخلفها ملايين الأضواء، أفقا خلف أفق. ثم تلوح الناطحات في الجزء الغني من المدينة. إنها طغيان نيويورك على طاقة الإنسان في التأمل. ومن حولك ناطحات متلاصقة هي طالما كانت، منذ مبنى الإمباير ستيت، علامة نيويورك الفارقة على مدن العالم. ثم يهدر صوت الدواليب المتقطعة فوق الحديد فتدرك أنك فوق جسر ما، جسر بلا نهاية، ثم تبدأ نيويورك بتقديم نفسها، مدينة المشاهير والأثرياء والنجوم. وبعد أيام ستحضر مسرحية «بيوغرافي». حكاية مطعم يعمل فيه النادلون على أمل أن يأتي مخرج سينمائي و«يكتشفهم».

وفي أيام تتغير الأضواء. من نادل إلى نجم. مطعم (اورسيني) يصدر أبطال المسرح والسينما. فقط في نيويورك، ينتظر الطامحون لحظة الشهرة والثروة، وهم يقدمون لك السباغيتي والكوستاليتا.