رغم كل شيء.. الفلسطينيون اقتربوا من اللحظة التاريخية

TT

رغم كل هذا الانحباس السياسي الذي لا يرى البعض غيره بالنسبة للقضية الفلسطينية، التي تبدو وكأنها عالقة في عنق زجاجة، فإن النظر إلى الأمور نظرة صحيحة، ومن خلال عيون لا تعاني من أي حولٍ، يؤكد أن هذه القضية تعاني مخاض لحظات ما قبل الولادة، وأن ضوء نهاية النفق المظلم قد اقترب فعلا، وبالتالي فإن المسألة غدت مسألة وقت ومسألة أداءٍ جيد على الصعيدين الفلسطيني والعربي.

من الخارج يبدو الإسرائيليون موحدين حول مواقف بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة المتمسكة بطروحات غدت غير مقبولة وغير مفهومة من قبل العالم كله، حتى بما في ذلك الدول والأحزاب والمجموعات التي كانت أكثر تصهيُنا من جابوتنسكي ومناحم بيغن وإسحق شامير، أما من الداخل فإن الأمور تبدو مغايرة لهذه النظرة الخارجية التي تتعاطى مع قشور المواقف ولا تغوص إلى أعماقها.

هناك الآن في إسرائيل صراع حقيقي يحتدم بين معسكرين متضادين؛ معسكر يرفض فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة التي غدت مادة مدرجة على جدول أعمال دول تعتبر بالأساس منحازة لوجهة النظر الإسرائيلية، ولذلك فإنه يتمسك بالاستيطان ويعتبر الضفة الغربية كلها أرضا غير محتلة، ومعسكر واقعي يرى أنه لا يمكن الاستمرار بالسباحة ضد التيار وأنه لابد من التعامل مع مستجدات الصراع في الشرق الأوسط على أساس الحقائق وليس على أساس الأوهام وأساطير التاريخ اليهودي، وهذا المعسكر الذي هو المعسكر الأضعف يرى أن إسرائيل أصبحت دولة معزولة وأن أصدقاءها حتى «قرفوها» وأنه إن لم يجر تدارك الأمور بسرعة والتصرف بمسؤولية وعقلانية فإن الخسارة على هذا الصعيد سوف تكون فادحة وخلال فترة غدت قريبة.

وبهذا ورغم كل هذا التماسك الظاهري فإنه بالإمكان القول إن إسرائيل باتت تعيش مأزقا حقيقيا إن بالنسبة لعلاقاتها مع أصدقائها في العالم كله، وإن بالنسبة لمستقبلها وطبيعة هذا المستقبل في هذه المنطقة. وهنا فإن هذه التصرفات النزقة وردود الأفعال الهوجاء التي يقوم بها المستوطنون تدل على أن هذه الدولة، التي تبدو للناظر من الخارج وكأنها قلعة متينة، هي في حقيقة الأمر تعيش حالة تمزق أخلاقي ووجداني وهي تمر في هذه الفترة بحالة عدم توازن وحالة عدم استقرار لم تمر بها منذ قيامها في عام 1948.

ومما يؤكد أن إسرائيل في حقيقة الأمر تعيش حالة تمزق داخلي وحيرة وصراع قد يتخذ في أي لحظة الطابع العنفي فقد أشارت صحيفة «معاريف» في عدد يوم الأحد الماضي في مقالٍ لكاتبة اسمها «مايا بنغل» إلى أن موجة الاحتجاج في أوساط المستوطنين على قرار بنيامين نتنياهو لوقف الاستيطان لعشرة شهور قد أثارت بالنسبة للأجهزة الأمنية مخاوف حقيقية على حياة رئيس الوزراء ومخاوف حقيقية أيضا من أن تحاول بعض أوساط اليمين المتطرف تنفيذ استفزازات عنيفة ضد الشرطة الإسرائيلية وضد مراقبي الإدارة المدنية.

وبالطبع فإن هذا قد يكون من قبيل التهويل لإظهار بنيامين نتنياهو على أنه يواجه معارضة داخلية حقيقية قد تستهدف حياته إن هو ذهب إلى ما هو أبعد من التجميد المؤقت مع استثناء القدس بالنسبة للاستيطان والمستوطنات، لكن عندما نقرأ في «يديعوت أحرونوت» لكاتب آخر هو «إتيان هابر» في عدد يوم الأحد الماضي نفسه «لو كان جابوتنسكي يعيش في ظهرانينا اليوم لقال للمستوطنين سيروا في طريقكم هذه لتنقذوا إسرائيل، ولو كان بن غوريون حيّا لقال لهؤلاء إن ما تفكرون به هو أضغاث أحلام.. سيروا نحو الحل الوسط والتقسيم فبهذا كنا أقمنا الدولة الإسرائيلية ولو أني أخذت برأي المطالبين بكل شيء فلما كانت لنا اليوم دولة» فإننا نتأكد من أن الإسرائيليين مرتبكون فعلا وأن هناك صراعا فعليا وحقيقيا بين المطالبين بكل شيء والواقعيين الذين يرون أن السباحة ضد التيار سوف تلحق بهذه الدولة خسائر استراتيجية فادحة.

ثم وحتى بالنسبة لليهود الأميركيين، الذين هم في حقيقة الأمر جدار الاستناد الاستراتيجي للدولة الإسرائيلية منذ إنشائها وحتى الآن، فإن هناك مستجدات بالنسبة لموقفهم من قضية فلسطين تمثلت بظهور منظمة جديدة مناوئة لمنظمة «إيباك» المعروفة، واسم هذه المنظمة التي استطاعت إيصال عدد كبير إلى مجلس النواب الأميركي في الانتخابات الأخيرة هو جي ستريت «J.street» وهي خلافا للمنظمة الأخرى تدعو إلى السلام على أساس إقامة دولة فلسطينية، على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 عاصمتها القدس الشرقية، إلى جانب دولة إسرائيل.

وأيضا فإن هناك الآن ما يمكن اعتباره صحوة ضمير تجاه الفلسطينيين والقضية الفلسطينية في أوروبا كلها، إن على مستوى الرأي العام، وإن على مستوى الدول والمواقف الرسمية، ولعل ما حدث في اجتماع بروكسل الأخير يؤكد هذه الحقيقة التي لا يقلل من أهميتها أن بعض هذه الدول قد اتخذت اتجاها معاكسا لاتجاه الاتحاد الأوروبي الذي وفقا للمقترح السويدي يؤيد الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين المستقلة المنشودة.

إن كل هذا يدل، رغم بعض الغيوم المتلبدة في سماء القضية الفلسطينية، على أن الوصول إلى بصيص الضوء في نهاية النفق المظلم غدا مؤكدا، وأن ما يدعو إلى التفاؤل فعلا أن هذه القيادة التي على رأسها محمود عباس (أبو مازن) تحظى باحترام مميز على الصعيد العالمي، وأن الإنجازات التي حققتها حكومة السلطة الوطنية التي يرأسها سلام فياض في الضفة الغربية، إن على صعيد الاقتصاد، وإن على صعيدي الاستقرار والأمن، أثبتت حتى للإسرائيليين بأن الشعب الفلسطيني يستحق أن تكون له دولة مجاورة لدولة إسرائيل تعيش معها بسلام وأمن واستقرار.

إنها فرصة، وهي فرصة سانحة بالفعل، ويبقى أنه على حركة «حماس» أن تتقي الله في شعبها وأن تتخلى عن انحيازاتها الخارجية وتغلب المصالح العليا للشعب الفلسطيني على المصالح التنظيمية الضيقة وعلى تحالفها الإقليمي مع إيران، التي ثبت وبكل الأدلة القاطعة أن فلسطين تأتي في آخر أولوياتها، وأن ما يهمها حقيقة هو الدور القيادي الذي تسعى إليه في هذه المنطقة.

غير جائز على الإطلاق، بل هو موقف لا يخدم إلا اليمين الإسرائيلي المتطرف، أن يدلي صلاح البردويل، الذي يشار إليه على أنه أحد قادة «حماس» الأساسيين، بتصريح قبل اجتماع بروكسل الأخير بيومين يقول فيه «نحن لا نؤمن بحل الدولتين ولا نؤمن لا بالدولة الفلسطينية ولا بالدولة الأخرى التي أقيمت على أرض فلسطين ولا نعترف بها.. ولذلك فإن ترسيم الحدود عملية من دون معنى وليس لها أي رصيد ولا حقيقة على الأرض».

إن هذا غير جائز وإنه على «حماس» أن تدرك أن ما يتحدث به بعض قادتها هو أضغاث أحلام وأنه لو أن ديفيد بن غوريون أخذ برأي المطالبين بكل شيء فلما كانت للإسرائيليين اليوم هذه الدولة القائمة.. إن المطلوب الآن فلسطينيا، وقد أصبحت القضية الفلسطينية على بعد خطوة واحدة من بصيص الضوء الذي يلوح في نهاية النفق المظلم، أن ينتهي هذا الانقسام الفلسطيني. في حين أن المطلوب عربيا هو وضع حدٍّ لحالة التثاؤب السياسي هذه وأن يبادر العرب إلى التقاط هذه اللحظة التاريخية، التي إن لم يتم اغتنامها فإن الخسارة ستكون بحجم قرن بأكمله، وعلى غرار خسارة القرن الماضي كله.

عندما تصبح إسرائيل مرتبكة وغير واثقة بنفسها في الداخل وعندما تنتهي علاقاتها الخارجية حتى مع أصدقائها التاريخيين إلى كل هذه العزلة وإلى هذا «القرف» وعندما يتخلص العالم من عقدة «الهولوكوست» والمحارق النازية ويبدأ بتفهم معاناة الشعب الفلسطيني ويتحلى بكل هذه الجرأة للانحياز إلى قضيته وتأييد ضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، فإنها جريمة بحجم الكرة الأرضية أن يبقى الفلسطينيون منقسمين على هذا النحو، وإنه تقصير قومي لا يمكن تبريره أن يبقى العرب يتثاءبون على هذا النحو وألا يبادروا، وبوحدة موقف، لاغتنام هذه الفرصة التاريخية.