قصة مدينتين!

TT

أستعير عنوان هذا المقال من نفس عنوان رواية الكاتب الإنجليزي المعروف تشارلز ديكنز التي بدأها بالجملة الآسرة «لقد كانت أفضل الأيام، ولقد كانت أسوأ الأيام»، وهذه المفارقة العميقة هي وصف دقيق لحال مدينة دبي، قصة النجاح، ومثال (ما يمكن عمله) وتحولها في لحظات قليلة إلى أنموذج للانهيار وتحملها لشتى الأوصاف المرتبطة بالسقوط والفشل الذريع. بداية هناك مبالغة في وصف ما حدث لدبي، ويبدو أنها تحولت إلى أيقونة مناسبة لتحميل أسباب الفشل ومبررات السقوط، وبقدر ما تبدو الصورة مفزعة وداكنة في دبي تبدو الصورة مشرقة ومفعمة بالأمل في جارتها الكبرى وعاصمة البلاد أبوظبي. إنها قصة مدينتين! هناك هروب كبير من مشاريع دبي وفرصها الاستثمارية، ويبدو الكثير من مشاريعها الكبرى أشبه بمواقع أشباح هجرها العمال وتركوا الأدوات والمعدات تحت شعاع الشمس الحارق، بينما تحولت أبوظبي إلى ورشة عمل تنشغل بالعمار والتشييد في سباق مع عقارب الساعة.

45 دقيقة بين المدينتين بالسيارة، ولكن المشهد مغاير تماما وكأن البعد سنوات ضوئية، ولكن بالنظر للصورة الكبيرة يبدو أن الرابح الأكبر لما يحدث الآن هو الإمارات العربية المتحدة نفسها كدولة، فالتنوع الحميد في اقتصادها وعدم وضع البيض كله بصورة مركزية في سلة واحدة ومكان واحد، مكنها من توزيع المجازفة وتقليل الخسارة، وهو المأزق الذي لم تسلم منه دول عربية كبرى وقعت في شراك المركزية وخنقت نفسها مكبلة فرص الاستثمار والتنمية المتوازنة على بلادها. فمصر هي القاهرة والقاهرة هي مصر، لا حراك إلا من خلال الدولة المركزية الموجودة بالعاصمة، وكان ذلك على حساب المدن الأخرى والأقاليم، وما ينطبق على مصر ينطبق بذات الأسلوب والشكل على دمشق، فدمشق هي الشام والشام هي دمشق، وتوسعها والهجرة إليها كان على حساب كل المدن الأخرى، وبغداد العراق كانت مركز كل شيء ونتج عن ذلك إهمال كل شيء. مثال التوازن والانتشار الجغرافي يحقق المقاصد ويزيل المركزية المعطلة. العالم القديم عرف ذلك ووظفه بقوة وقلده العالم الجديد أيضا، باريس لا تعمل بلا مرسيليا، وبرلين لا تنطلق بلا فرانكفورت، وهامبورغ وروما مشلولتان بلا ميلانو، وواشنطن تضيع دون نيويورك ولوس أنجليس، وغيرها من الأمثلة المهمة. هناك العديد من العبر المهمة التي لم تستكمل بعد في تقييم ما حدث في دبي، سواء تقييم السياسات المالية أو التشريعية أو العمالية وغيرها، ولكن الصدمة الأهم بالنسبة لاقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي تحديدا، وهي التي تأتي بعد صدمة تجاوزات مجموعة سعد السعودية، التي يطالبها عدد كبير من المصارف داخل وخارج السعودية وتلاحقها أيضا بالقضايا، كل ذلك يظهر أن القطاع المصرفي بحاجة للتطوير وتحسين مستويات المكاشفة والشفافية والمساءلة والمحاسبة، وأن تكون هناك مراجعات جادة لأساليب إدارة المصارف وطريقة التعاطي مع القرارات الكبرى والبعد عن سياسات المحاباة وغيرها، لأن هناك أمثلة هائلة تؤكد وجود تجاوزات كبرى أدت للأزمة الهائلة التي تهدد كيانات مصرفية عملاقة في أكثر من بلد. الثقة هي الضحية الكبرى للهزات الاقتصادية العنيفة، ولكن تلك الأزمات هي فرصة لإعادة التأهيل والتألق البرازيلي والكوري والتركي والمكسيكي والأرجنتيني الذي يشهد عليه العالم اليوم في مجال الاقتصاد، وهو نتاج أزمات مالية عنيفة عصفت بهذه الدول، أعادت فيها هيكلة أمورها وترتيب أولوياتها وكان لها النجاح الجديد.

[email protected]