موسم «التبولة» في لبنان

TT

لم يجرؤ أحد، حتى الآن، على وصف الديمقراطية البرلمانية في لبنان بـ«النموذجية» رغم اتفاق الجميع على كونها ظاهرة جديرة بالتشجيع في منطقة تأنف التعددية السياسية.

ولم يسبق لأحد أن اعتبر الديمقراطية اللبنانية نظاما خاليا من الشوائب ما دام قد استمر تشابك «الحصصية المذهبية» مع صيغة التمثيل الشعبي في البرلمان، بحيث تحوّل هذا التشابك إلى نظام قائم بحد ذاته عنوانه «الديمقراطية التوافقية».

وكذلك لم يعترض العديد من اللبنانيين على تفريط سياسييهم، خلال أزمة المشاورات النيابية لتشكيل حكومة الحريري والتي طالت نحو أربعة أشهر، في العامل الأساس في اللعبة الديمقراطية ـ أي انتخاب أكثرية وأقلية في برلمانهم ـ فرضوا بالتغاضي عن القرار الشعبي الواضح الذي أفرزته انتخاباتهم ليطرحوا فكرة تشكيل «حكومة وحدة وطنية» هي في واقعها حصيلة اتفاقات متبادلة على التستر، مرحليا، على هواجس المذاهب والطوائف من صيغة «الأمر الواقع» المستمر في لبنان، وإخراج الحكومة من نفق الشروط المتبادلة.

وهكذا، وفي أعقاب انتخابات شهد الجميع بشفافيتها وأنتجت أكثرية وأقلية برلمانيتين، «تهرب» النظام اللبناني من نتيجتها ليبتكر ما أسموه «حكومة وحدة وطنية» هي بمثابة برلمان «رديف» (30 عضوا) يجمع الصيف والشتاء على سطح واحد.

حكومة «الوحدة الوطنية» قمة التقية السياسية التي تمارس الآن في لبنان تحت عنوان «التهدئة»، فالتهدئة لم تحرم الأكثرية من لعب دورها في تحمل مسؤولية الحكم فحسب، بل أعفت الأقلية أيضا من القيام بدورها الرقابي في إطار المعارضة البرلمانية.

قد يكون مناخ التهدئة المعمم اليوم على لبنان نتيجة مباشرة لتوازن نفوذ القوى الإقليمية الفاعلة على ساحته، إلا أن ذلك لا يعني أن التهدئة ليست مطلبا ملحّا في لبنان.. ولكن على أسس واضحة وقابلة للاستمرار. والدليل الأبرز على أهميتها ما أثبتته انعكاساتها الاقتصادية من ارتفاع ملموس في الودائع المصرفية خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وخصوصا من ارتفاع ودائع اللبنانيين غير المقيمين بنحو 3 مليارات دولار، في الفترة نفسها، والذي يعتبر بمثابة اقتراع ثقة غير برلمانية في سياسة التهدئة.

ولكن نكسة الديمقراطية اللبنانية الأدهى ـ حتى في بعدها التوافقي ـ نجمت عما استتبعته التهدئة من إعادة اصطفاف سياسي، معظمه آني ومصطنع، فاختلط الحابل بالنابل والـ«14 آذار» بالـ«8» على الساحة السياسية، بحيث تحولت إلى نسخة حية عن الوجبة اللبنانية المتعددة الخضار والألوان: طبق «التبولة»، مع فارق أساسي في أن «تبولة» الساحة السياسية لا طعم لها ولا لون حتى الآن.

قد يجوز التغاضي عن أن مرحلة التهدئة، التي ترجمت ميدانيا بحفلات مصالحة بين الأضداد ولقاءات بين الخصوم، وضعت معظم أحزاب لبنان في «منزلة بين المنزلتين» وسياسييه على قاب قوسين أو أدنى من فقدان مصداقيتهم، بحيث بات من الصعب اليوم معرفة من هو «مع» من ومن هو «ضد» ولماذا، وإلى متى.. ولكن ما لا يجوز تجاهله على خلفية الحالة اللبنانية أن سياسة التهدئة، على ضرورتها، تظل هدنة موسمية اعتادها اللبنانيون بين حرب وحرب منذ فتنة عام 1860.. ما لم تقترن بحسم جدي لقضية مصيرية لا يزال اللبنانيون مختلفين جذريا عليها وإن اتفقوا على إدراجها تحت عنوان فضفاض اسمه «الاستراتيجية الدفاعية» وعلى ترحيلها إلى «طاولة الحوار الوطني» الموعودة.

والسؤال الذي يطرح نفسه بعد مناقشات جلسات الثقة بالحكومة الجديدة، وعشية تشكيل طاولة الحوار الموعودة هو: هل سينتهي «موسم التبولة» مع بدء جلسات الحوار الوطني أم أن الحوار سيكون وسيلة أخرى لتمييع موضوع حصرية سلاح الدولة.. وبالتالي انتظار ما ستحمله التطورات الإقليمية؟