القطعان

TT

سئل الفيلسوف برتراند رسل، إذا كان مستعدا للموت في سبيل ما يعتقد، فقال: كلا بالطبع، إذ بعد هذا كله، ربما كنت على خطأ.

إذا نحّينا الدين والوطن على جنب، فلا شيء حقا يستحق أن نموت من أجله، لأن الحياة جديرة بنا ونحن جديرون بها كذلك.. صحيح أن «من لم يمت بالسيف مات بغيره»، غير أن تعدد الأسباب يختلف.

وأتمنى أن أموت وأنا قرير العين وفي أحضان الجمال، ولا أموت كبهيمة الأنعام ذبحا، أو مفجّرا نفسي مع من سواي في سبيل قضية غامضة، غسلوا بها رأسي، وجعلوني من خلالها أتخبّط كالمعتوه أناطح الجدران وبعد أن تبلى عظامي وتصبح رميما، يكشف لنا التاريخ أن تلك القضية التي أطفأت من أجلها شمعة حياتي، لم تكن سوى قضية ظالمة استغلّتني بها، واستغلت غيري معي، مجموعة من عتاة الأشرار والمشعوذين، ليكتب عنهم التاريخ شيئا ـ أي شيء ـ وقد كتب فعلا وكانت دمائي ودماء غيري مدادا له.

إن هؤلاء المرضى الأدعياء الذين يصرخون أو ينعقون مع مطلع كل شمس، زاعمين أنهم هم وحدهم الذين يملكون مفاتيح الحق والحقيقة، إنما هم إسفين مسموم وغائر في خاصرة الإنسانية، ولا بد من نزعه وعلاجه والتصدي لأسبابه بكل أسلحة العقل لا بأسلحة الجنون. ولو نزعنا أوراق التاريخ وقلّبناها صفحة صفحة، وأمسكنا قلما أحمر (لِنَلَغ) فيه ومعه في دماء «شهداء» المبادئ التي كان المساكين يعتقدونها.. فماذا نجد؟! إننا لن نجد سوى جثث تكدست فوق جثث، وجماجم رصت فوق جماجم، وغباء أخذ بتلابيب الناس ورقابهم، من أجل حفنة من النصّابين أو المغامرين أو الدجالين أو طلاب المكاسب والمغانم والشهوات.

إن بعض تاريخ الإنسان لا يعدو ـ مع الأسف ـ إلا أن يكون محرقة هائلة لا تتعب من أن تقول دائما: هل من مزيد؟! محرقة أكلت عقول الرجال، ومهج النساء، وقطفت بلهيبها وصهدها براعم الأطفال وهم في سنيّهم الأولى أو في مهادهم، دون أن يرف لها رمش، وهي لم تعطهم حتى الفرصة لتجريب الحياة، ولكي يملأوا صدورهم الصغيرة من هوائها العليل وغير العليل.. إنه تاريخ كئيب حافل باختراع «المبادئ»، وكيفية الموت في سبيل مخترعي تلك المبادئ.

قطعان من البشر ـ أقول البشر وليس الماشية ـ «قطعان» من البشر انقادت، ولا أقول قيدت.. تلك القطعان انقادت «بأظلافها» ببراءة ومثالية متناهية ـ لا تحسد عليهما ـ وهي تنشد «الحق».. والحق عنها بعيد.. لأن الحق صنو للحقيقة، والحقيقة حمّالة أوجه. الحقيقة نسبية. ليست هناك حقيقة كاملة.. إذن مثلما قيل: رأيك صواب يحتمل الخطأ، ورأيي خطأ يحتمل الصواب.. على هذا الأساس، وهذه الأرضية، وتحت هذه السماء الرحبة.. سماء الحرية التي تحني رأسها «للحوار» الحضاري الذي يحترم الطرف الآخر ـ أي الخصم ـ ويشهر في وجهه سلاح المنطق، لا سلاح الرصاص والقتل.. على هذا الأساس: نحن على أتم الاستعداد لأن نحوّل أقلامنا إلى سنابل قمح، وأجسادنا إلى تراب.

[email protected]