في مواجهة طرد وتشريد واستلاب الفلسطينيين.. خلق الحقائق في الأذهان

TT

قبل ستين عاما من اليوم، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على إنشاء هيئة مؤقتة تعرف بوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). وقد كانت مهمة الأونروا تتمثل في التعامل مع العواقب الإنسانية لطرد وتهجير ما يقارب من ثلاثة أرباع مليون لاجئ فلسطيني بالقوة نتيجة للحرب التي دارت في الشرق الأوسط عام 1948 وليجدوا أنفسهم وقد هُجروا عن بيوتهم وأُبعدوا عن أراضي أجدادهم. وبعد عقدين فقط من الزمان، أحدثت حرب الأيام الستة موجة جديدة من العنف والتشريد القسري، ونتج عنها احتلال باقي الأراضي الفلسطينية. واليوم، فإن النفي المؤلم لا يزال نصيب الفلسطينيين، ومنهم اللاجئون الفلسطينيون. فاحتلال الأراضي الفلسطينية لا يزال مستمرا، ولا توجد هناك حتى اللحظة دولة فلسطينية، إضافة إلى أن حقوق الإنسان والحريات الأساسية، والتي هي حق للفلسطينيين بموجب القانون الدولي، ما زالت مسلوبة وغير موجودة.

الاحتلال الإسرائيلي، والذي أنهى عقوده الأربعة، قد أصبح راسخا أكثر مع كل انتهاك لحقوق الإنسان وللقانون الدولي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. الجهات السياسية الفاعلة تمتلك بيدها القدرة على تصويب الأوضاع والتحدي لسياسة الامتهان التي يكابدها الفلسطينيون. ولكن الوضع الحالي مختلف: فإن توجه الجهات السياسية كان ولا يزال، وفي أحسن أحواله، يتوه في تفصيلات الاحتلال وتجلياته ـ نقطة تفتيش هنا ترفع أو تفرض أو كيس من الإسمنت هناك يمنع دخوله أو يسمح به. وفي أسوأ الأحوال، كان التوجه يتمثل بعدم الالتفات لما يحصل من انتهاكات وأحيانا أخرى السكوت عن أو حتى مساندة ودعم الإجراءات والسياسات التي تتسبب بمعاناة الفلسطينيين.

ومن وجهة نظري كرئيسة للوكالة المفوضة بمساعدة وحماية اللاجئين الفلسطينيين، فإنه لمن المحير والمربك على وجه التحديد رؤية أن التوجه الدولي السائد يفشل ـ أو يرفض ـ في منح قضية اللاجئين الاهتمام الذي تستحقه. وعلى مدى ستين عاما، فإن حالة الطرد والاستلاب لشعب بأكمله فشلت في أن تكون في صلب وجوهر جهود السلام. إن نقطة الانطلاق، والتي ينبغي للسلام أن يبدأ منها، غائبة عن جدول الأعمال الدولي، ومركونة جانبا باعتبارها واحدة من قضايا «الوضع النهائي»، أي إنه قد تم إقصاؤها كقضية تنتمي إلى مرحلة لاحقة من عملية المفاوضات. وفيما تستمر حالات التشريد القسري في مختلف أنحاء الضفة الغربية، حيث يتم طرد الفلسطينيين من بيوتهم في القدس الشرقية، فإنني أطرح سؤالا بسيطا: ألم يحن الوقت بعد لأولئك المنخرطين في عملية السلام لحشد الإرادة والشجاعة لمعالجة قضية اللاجئين الفلسطينيين؟

وفي هذه الذكرى الستين ـ وللأسف ـ للوكالة والتي سأغادرها مع نهاية الشهر الجاري، فإنني أود أن أعيد تركيز النقاش حول من تم تشريدهم وطردهم، وأن أضع اللاجئين أنفسهم في صلب جهود صنع السلام. ولا يظن البعض أنني مخطئة في ذلك: ليس هناك أي نزاع واحد في العصر الحديث قد تم حله، ولم يتم التوصل إلى سلام دائم في أي مكان على وجه الكرة الأرضية ما لم يتم الاستماع لأصوات ضحايا ذلك النزاع، وما لم يتم الاعتراف بالخسائر التي تكبدوها والثمن الغالي الذي دفعوه، وما لم تتم مواجهة الظلم الذي تعرضوا له. إن سوابق جهود صنع السلام الأخيرة والمنهجية التي تم اتباعها في حل النزاعات المعاصرة تؤكد على أن إعطاء الأولوية القصوى لحل مشكلة الطرد والتشريد واستلاب الحقوق واستيعاب محنة اللاجئين لهي ضرورة، والتزام دولي وواجب إنساني.

إن المواجهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية معقدة وفريدة. ومن بين أبعادها التي لا تعد ولا تحصى، والتي بمجملها تتطلب الاهتمام، فإن قضية اللاجئين، والتي لم تجد طريقها للحل، تعد واحدة من القضايا الأكثر ارتباطا وتعبيرا عن حالة عدم اليقين في الحالة الإقليمية والوضع السائد وبمسألة استمرار النزاع. وبالتالي، فإن معالجة تلك القضية هي شرط ضروري ولا غنى عنه في سبيل إحراز تقدم نحو أي حل تفاوضي. إن الفشل في التعامل مع قضية اللاجئين وإلقاءها جانبا لم يخدم سوى محاولة التنصل من وتبديد محورية وأهمية اللاجئين كمجموعة لها دور مفصلي في توفير السلام واستدامته. لقد خلق هذا الإهمال لقضية اللاجئين لدى الكثيرين حالة من الشك والإحباط حيال عملية السلام برمتها، مما أدى بالتالي إلى تعزيز مواقف أولئك الذين يجادلون ضد مفهوم السلام ذاته.

وأيا كان، فإنني أرفض أن أنهي خدمتي في منصب المفوض العام للأونروا بنظرة متشائمة. وعوضا عن ذلك، فإنني ألح على أن نقوم باتخاذ الخطوات العملية المطلوبة من أجل إشراك الفئات المهمشة. دعونا ندحض دعاوى المتشائمين والمشككين؛ دعونا نخلق واقعا بديلا لنزع أسلحة أولئك الذين يفضلون العنف. إنني أناشد صانعي السلام بالاعتراف، في خطاباتهم وتصريحاتهم، والأهم في سياساتهم الفعلية، بالحاجة لمعالجة حالة الطرد والتهجير والاستلاب والتشريد الفلسطينية. أفسحوا المجال للمضمون الحقيقي بأن يحل محل الرمزية والبلاغة الكتابية واللفظية. وفي الذكرى السنوية الستين للأونروا، فإنني أدعو المجتمع الدولي وأطراف النزاع للاعتراف بستين عاما من الظلم الذي حل بالفلسطينيين وذلك كخطوة أولى نحو معالجة عواقب ذلك الظلم. دعونا نقُم ببناء الحقائق في أذهاننا من أجل خلق حقائق لسلام عادل ودائم على أرض الواقع.

* المفوض العام للأونروا