الوثيقة السويدية: الجودة في مواجهة العجز عن الفعل

TT

ثارت ضجة كبيرة حول «الوثيقة السويدية» المقدمة إلى لقاء وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي المنعقد في بروكسل، والتي تناولت تحديد سياسة الاتحاد من قضايا التفاوض والتسوية الفلسطينية ــ الإسرائيلية. ثارت الضجة أولا في إسرائيل، التي أعلنت شن حملة دبلوماسية داخل أوروبا لإقناع دولها برفض الموافقة على الوثيقة عند التصويت عليها.

وفي نوع من الهزة الارتدادية، انتقلت الضجة إلى أوروبا، فتقدمت دول لتلعب دور الوسيط، بين ما تقترحه السويد وبين ما تعترض عليه إسرائيل. وهنا تقدمت فرنسا، وبما لها من وزن أوروبي، لاقتراح صيغ الحلول الدبلوماسية الوسط. ثم انساقت معها أوروبا كلها، فوافقت على الوثيقة السويدية بصيغتها الفرنسية.

وفي النهاية، واصلت إسرائيل الإعلان عن عدم ارتياحها للنتيجة. أما الموقف العربي، فقد عبر عن طربه للمبادرة السويدية، ثم عبر عن فرحه بالطبعة الفرنسية للمبادرة، بينما عبرت السلطة الفلسطينية بلسان سلام فياض عن إعجاب لا حد له بالموقف الأوروبي. وحصل كل ذلك عربيا من دون الإقدام على شن حملة دبلوماسية تقف في وجه الحملة الدبلوماسية الإسرائيلية.

لماذا ثارت الضجة حول الوثيقة السويدية؟ ثارت بسبب بند أساسي واحد يتعلق بمدينة القدس. وثارت بسبب تعارض الاقتراح السويدي حول القدس مع سياسة حكومة بنيامين نتنياهو، وهي السياسة التي قالت: إن القدس عاصمة إسرائيل، وهي تم ضمها إلى إسرائيل عام 1967، وهي لن تكون على طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين. وثارت الضجة أيضا بسبب الجري الإسرائيلي السريع لإحداث تغييرات في القدس تؤكد السيطرة اليهودية عليها، وتقطع بالتالي مجال التفاوض بشأن وضعها النهائي. وقد عبّر الجري الإسرائيلي السريع عن نفسه، بسحب حق المواطنية، وحق الإقامة، من سكان القدس، والإعداد لإبعاد الآلاف منهم عن مدينتهم، أو اعتبارهم سكانا أجانب مقيمين فيها. وصل الجري الإسرائيلي السريع إلى حد احتلال البيوت وطرد السكان من غرف نومهم، ودخول إسرائيليين فورا لاحتلال المنزل بدلا من سكانه الفلسطينيين. ولا شك أن هذا الجري الإسرائيلي الذي كان يجري أمام أنظار العالم، قد استفز الكثيرين، حكاما وجماهير، فكان أن ولدت من رحم ذلك «الوثيقة السويدية» التي تحولت إلى علامة سياسية فارقة في المواقف الدولية من إسرائيل.

ولكن هل كانت الوثيقة السويدية تعبيرا عن موقف أوروبي جديد، أم أن اصطدامها المباشر مع موقف نتنياهو هو الذي أدى إلى إشعال النار؟

في الجواب على هذا السؤال لا بد أن نعود قليلا إلى الوراء، وبالتحديد إلى 13/6/1980، اليوم الذي أصدرت فيه الدول الأوروبية البيان الذي حمل اسم «بيان البندقية». لقد رسم هذا البيان، مع بيانات قبله وبيانات بعده، سياسة أوروبا تجاه موضوع التسوية السياسية بين العرب وإسرائيل. وكان جوهر الموقف الأوروبي في حينه يقوم على الأسس التالية:

1 ــ أن على إسرائيل أن تنهي احتلالها للأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967 (ويشمل ذلك مدينة القدس، وإن كان البيان لم يسمِّها).

2 ــ الإعلان عن أن المستوطنات التي بنتها إسرائيل، وكذلك التغييرات الديمغرافية التي أحدثتها، والأراضي التي وضعت يدها عليها، تُعتبر كلها غير شرعية وغير قانونية (ويشمل ذلك بشكل أساسي، ما فعلته إسرائيل في القدس، وحول القدس، حيث كان الاستيطان يتركز آنذاك في تلك المنطقة، «منطقة القدس الكبرى»، وإن كان البيان لم يذكر اسم القدس عند الحديث عن هذه القضايا).

3 ــ الدعوة إلى حل القضايا كلها بالمفاوضات، مع ضرورة الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت آنذاك في عرف إسرائيل، منظمة إرهابية وغير قانونية.

شكل هذا الموقف الأوروبي هزة داخل إسرائيل، ولكنه كان على الصعيد العالمي مقبولا وموافقا عليه. فلا أحد كان يعترض حتى تلك اللحظة على أن الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة، مناطق محتلة، والتسوية السياسية تعني الانسحاب منها بالكامل.

وقد تتالت المواقف الأوروبية بعد ذلك، مؤكدة نفسها بأشكال مختلفة، ولكن بوضوح أكبر، يتلاءم مع وضوح نيات المواقف الإسرائيلية. ففي عام 1992، وبعد انعقاد مؤتمر مدريد ومفاوضات واشنطن التي سبقت اتفاق أوسلو، كانت إسرائيل قد بدأت الإعلان عن موقفها من القدس، فقدمت المجموعة الأوروبية اقتراحا يطالب إسرائيل بـ«الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة بما فيها مدينة القدس». وطالب الاتحاد الأوروبي إسرائيل في بيان رسمي «بوقف عملياتها وإجراءاتها في شرقي القدس». وقال الاتحاد الأوروبي في بيانه إن الإجراءات الإسرائيلية غير قانونية وتتناقض مع القانون الدولي.

وأقامت إسرائيل في عام 1995 احتفالات باسم «يوم القدس»، هدفها تأكيد ضم القدس إلى إسرائيل، وتأكيد أن القدس عاصمة إسرائيل، ولكن الاتحاد الأوروبي قرر جماعيا عدم المشاركة في الاحتفالات الإسرائيلية، وكانت الرسالة واضحة تقول إن إسرائيل لا تعترف بسيادة إسرائيل على المدينة.

كل هذه المواقف المتتالية، أكدت وتؤكد، أن الموقف الأوروبي المعارض والرافض لسيطرة إسرائيل على القدس، موقف قديم، وتم تثبيته في أكثر من مناسبة، وعلى مدى خمسة عشر عاما، فما الذي حدث إذا حتى تثور كل هذه الضجة حول «الوثيقة السويدية»؟

إن السويد حاليا هي رئيسة الاتحاد الأوروبي. وهي أقدمت على إعداد «الوثيقة» بصفتها هذه. وعند الصياغة، فإن وزير الخارجية السويدي لم يفعل سوى استجماع المواقف الأوروبية المتتالية منذ عام 1980 حتى الآن. وكان طبيعيا أن يحدث تغيير في صياغة الكلمات، بحيث تأتي الكلمات الجديدة متلائمة مع الكلمات السياسية السائدة. والكلمات السياسية السائدة هي بحسب إسرائيل: ضم القدس، والقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ورفض التفاوض حول القدس. وما كان من وزير الخارجية السويدي إلا أن أعاد صياغة الموقف الأوروبي الثابت، بما يتناسب مع مفردات الموقف الإسرائيلي، وكان أن تم بناء على ذلك تسجيل صيغة أن «القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين» بالإضافة إلى المسائل الأخرى حول ضرورة إنهاء الاحتلال، وإنشاء الدولة الفلسطينية، وتغيير تعامل الاحتلال مع سكان القدس، ووقف الحصار المفروض على قطاع غزة، إلخ.

وعلى ضوء كل هذا لا بد من استنتاج. والاستنتاج المنطقي هنا هو أن أوروبا الموحدة، وفي التغيير الذي طرأ على بند القدس بالذات، قد تراجعت عن مواقفها المتتالية المعلنة والمعروفة. وفي هذا التراجع لم تذهب أوروبا نحو النقيض، إنما أبقت الأمور في موقف وسط، داعية إلى اعتبار القدس عاصمة لدولتين، وإلى حل المسائل بالتفاوض. وفي هذه الصيغة المطاطة، التي قد تكون جيدة وقد تكون سيئة، يضيع تحديد معالم القدس المحتلة عام 1967، ثم يفتح التفاوض باب المطالبة الإسرائيلية باقتطاع أرض هنا وأرض هناك، وتثور الخلافات من جديد، وقد تفشل المفاوضات ثانية كما فشلت عام 2000 في مفاوضات كامب ديفيد.

تبقى نقطة أخيرة حول الأهمية العملية للموقف الأوروبي. إن الموقف الأوروبي هام من ناحية التأكيد على أن المواقف المؤيدة لإسرائيل تاريخيا، لم تعد قادرة على مواصلة تأييدها للمطالب والتطلعات الإسرائيلية التي لا تنتهي من جهة، والتي تتناقض مع القانون الدولي من جهة أخرى. ولكن الموقف الأوروبي لم يكن قادرا في الماضي، كما أنه غير قادر الآن، على أن يحول نفسه إلى سياسة ضاغطة وفعالة تملك آليتها الخاصة بها، فهي عاشت دائما تحت سقف الموقف الأميركي، وكثيرا ما منعتها أميركا من رفع سقف تحركها السياسي العالمي، وأبقتها في إطار الإعلان عن المواقف. وها هو الموقف الأوروبي يبرهن مرة أخرى، على جودته، وإنما أيضا على عجزه عن تجاوز الموقف الأميركي، وقصة الموقف الأميركي أصبحت شائعة ومعروفة.